رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الأسوأ لم يأت بعد».. كتاب يرسم سيناريوهات قاتمة للمستقبل

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ما الذي تُنبئ به عقود من النيوليبرالية؟ كيف سيبدو عالم ما بعد الرأسمالية؟ إلى أي مدى يُمكن أن يكون التفاؤل بشأن المستقبل في ظل المعطيات الراهنة مُجديًا؟ من هذه الأسئلة ينطلق أستاذ الإدارة بجامعة سيدني للتكنولوجيا، بيتر فليمنغ، في كتابه "الأسوأ لم يأت بعد.. دليل ما بعد رأسمالي للنجاة"، الذي صدر في ترجمة عربية حديثًا عن "منشورات التكوين"، لكن دليله للنجاة الذي يشير إليه في عنوان كتابه ليس سوى ما يُشبه السخرية المريرة مما حاق بالبشرية وما ستؤول إليه مستقبلًا في ظل الأوضاع الراهنة.

المستقبل ما بعد الرأسمالي

تقدمٌ تقني مذهل جعل الحضارة الغربيّة تبلُغ أوجها، انتصارات تكنولوجية متتالية شهدها القرن العشرون لكن في المقابل ثمة دمارًا ألقى بظلاله على الإنسانية التي باتت تئن تحت تأثير أوجاع الاستغلال الرأسمالي الذي لا ينقطع، وصارت المميزات التي خلقتها تلك الحضارة هي في الآن ذاته وسيلة لاستعباد الإنسان وإلقائه في سيل من الاستهلاك والفردانية والوحشة المقيتة.

عززت الرأسمالية من مبدأ "الإنسان الاقتصادي" القائم على اعتبار الإنسان آلة تسير على قدمين وينطلق في أفكاره بالأساس من حسابات المكسب والخسارة، ازدهرت الأعمال وصار الإنسان المُتحضّر يعمل بصورة مستمرة للحفاظ على مكتسباته إلى حد أن كل شخص صار يُعرّف بعمله، لكنه مع ذلك ظل مرتهنًا للضغط والقلق، وجافت الراحة والاطمئنان مضاجعه. 

في ظل الرأسمالية، يتخذ العمل بُعدًا وجوديًا ويصير العمل في مؤسسة نيوليبرالية مستنزفًا للحياة، لا سيّما مع سيادة التراتبية الهرميّة والمديرين السلطويين الذين يقود وجودهم إلى شعور مستمر لدى المرءوسين بالعجز والرعب من فقدان الوظيفة ما يقود إلى تعلق غير عقلاني بالعمل. 

ورغم الدفاعات عن مزايا "الفردية" كما تقدمها النيوليبرالية، فإنها في الواقع تُحِد من التضامن الاجتماعي، وتجعل كل فرد وحيدًا ومتعجلًا ومنفعلًا على الدوام، لا سيّما مع وجود الاقتصاد الجديد والهواتف الذكية التي تطمس الحدود بين العمل والحياة الشخصية.

جاءت أزمة 2008 المالية لتكشف أن "الإنسان الاقتصادي" ليس أيقونة دالة على الحرية الشخصية لكنه مُعبِّر عن اليأس والقنوط، وفي ظل مآلات الرأسمالية يتوقع الكاتب أن المستقبل ما بعد الرأسمالي لن يكون يوتوبيا، "فعتمة ما بعد الرأسمالية تُرسل إلينا إشارات تحذيرية من كل الاتجاهات، ونحتاج لإجراءات استباقية. قد يبدو هذا التشوش أمرًا هامشيًا في البداية لكنه في الحقيقة قمة جبل الجليد".

يُجادل الكاتب أن الرأسمالية الليبرالية قد قطعت طريقها حتى نهايته، وأنتجت نسلًا غير قادر على حماية نفسه منها، فلم تعد هناك احتمالات لاستمرارها؛ لا سيما وأن أكثر المجتمعات الصناعية تقدُمًا تجاوزت بالفعل مبادئ الرأسمالية ومشغولة بالتحول لشيء آخر لم يتحدد كنهه بعد. 

مُجتمعات آلية

يتطرق الكاتب إلى الحديث عن التخوفات المُستقبلية من تهديد الذكاء الاصطناعي للبشريّة، فمع حديث مهندسي الحواسيب عن صعوبة التفرقة مستقبلًا في ظل سيادة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بين البشر والروبوتات، يعتبر البعض أن الروبوتات هي أكبر تهديد يواجه البشريّة في المستقبل، لكن الكاتب يرى أن ثمة أبعادًا أخرى للمسألة.

البُعد الأول هو أن ثورة الذكاء الاصطناعي لا يُمكنها أن تُنتج الشر من تلقاء نفسها ولكنها ستعكس نزوع مبرمجيها من البشر وهذا هو التهديد الأكبر، والبُعد الثاني أن الروبوتات لن تهدف إلى تدمير البشر أو القضاء عليهم، لكن إن حدث ذلك فسيكون بسبب سوء برمجتها وتوجيهها إلى أهداف غير دقيقة. 

وفيما يخص مستقبل المهن والوظائف في ظل الذكاء الاصطناعي، يلفت الكاتب إلى أن الذكاء الاصطناعي لن يقضي على توظيف البشر ولكنه سيُعيد ترتيبها، رغم ما تروجه بعض الدراسات من أن نصف الوظائف في أمريكا وبريطانيا سيصبح آليًا تمامًا في المستقبل القريب؛ إذ ستشجع الحوسبة ثلاثة تصنيفات وظيفية تتشكل من الآن.

 الأولى: مجموعة عمالة نخبوية يملكون الخبرات التكنولوجية التي تندمج مع السلطات الإدارية، هؤلاء يشرفون على انبثاق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، الثانية: الوظائف نصف الأتوماتيكية التي تغير الحوسبة طبيعتها جذريًا وتحط منها، أما الثالثة فتعتمد على سعر العمالة المتوفرة الذي ستمليه سياسات التوظيف الحكومية؛ إذ ستبقى الوظائف التي يكون فيها توظيف العمالة أرخص من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.  

ويضيف الكاتب: الخوف من تمرد الذكاء الاصطناعي وتدميره للكوكب ليس له أساس من الصحة. ما قد يتحقق هو وضع أقبح بكثير يلعب فيه البشر أدوارًا بارزة. فإن كانت الروبوتات تجسيدًا لعلاقات القوة البشرية فسبب ضياعنا لن يكون بسبب استعباد البشر من قِبل الذكاء الاصطناعي، ولكن  بسبب تخليد الحاضر المُنهك في تنويعة مستقبلية أسوأ؛ شبكة رقمية من الهيمنة غبية وخاوية إلى حد تبدو معه نهاية العالم راحة مطلوبة.  

شبكات التواصل

مع بداية ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، ساد الظن بأنها ستكون الدواء لداء الفردانية الذي استحكم في الحضارة الحديثة مع ما تتيحه من تعزيز للروابط والصلات بين البشر، لكن الواقع أثبت أنها جعلت من الأفراد ساحة واسعة للاستغلال لصالح  رأس المال، صارت شبكة مثل فيسبوك مُرتبطة بالاستغلال المشبوه لأجل البريكست وترامب وبحماية مجموعات اليمين المتطرف الناشرة للكراهية مع رفضها مسح المنشورات العنصرية لارتباطها بمصدر الدخل الإعلاني المُربح.

ويلفت الكاتب إلى أن تكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي التي كان من المفترض أن تحرر الناس من هيمنة الشركات على الشبكة العنكبوتية، قامت بتحويلهم إلى وكلاء يُتلاعب بهم خاصة مع تبرعهم المجاني بالمعلومات عن أنفسهم وتفاصيل حياتهم، وهو ما كشف زيف ذلك الواقع الافتراضي. 

الإنسان والطبيعة

يتطرق الكاتب للحديث عما فعله الإنسان في الطبيعة وسوء استغلاله لمواردها تحقيقًا لمصالحه ومكاسبه وسعيّا لجني الأرباح بأي مقابل، صار ثراء الحياة غير الآدمية انعكاسًا للجنون البشري، وباتت المزارع الصناعية العملاقة مجرد منتج للحلم النيوليبرالي الهادف إلى تحويل المجتمع كله إلى سوبر ماركت عملاق.

يوضح الكاتب أن تأثير الحضارة المعاصرة على البيئة كان مُدمرًا، لكن هذا العنف الخارجي ليس إلا جزءًا من الحكاية، فالجزء الأهم هو تشويه النظام الاقتصادي العالمي لنفسه من خلال اعتدائه على المحيط الحيوي بما يعد بتدمير البشريّة؛ إذ سيشن عالم الحيوان والنظام البيئي الانتقام على البشرية ربما على هيئة فيروسات غير قابلة للعلاج أو عواصف أو ضمور محاصيل.

يورد الكاتب ثلاثة ردود أفعال برزت إزاء الشك السائد في مدى تقدمية الحضارة الحديثة؛  أولها التفاؤل: وهو اتجاه أيده عدد من معلقي التيار السائد مثل ستيفن بينكر الذي قال إن الديمقراطية الليبرالية قامت بجهد كبير لكبح شياطيننا الداخلية وتوجيهنا بعيدًا عن العنف إلى التعاون والإيثار، لكن الكاتب يرى أن هذا المنحى التفاؤلي لم يعد هناك ما يبرره في الواقع.

رد الفعل الثاني إزاء تلك الحالة من التشكك كان باستغلالها لزرع الاستياء في مركز المشروع الليبرالي الجديد المتضائل، عبر المتاجرة بالعدمية تغذيًا على المنطق النقدي. فيما يحاول رد الفعل الثالث استعادة الإيجابية كرد فعل على الثقافة  السائدة وهو اتجاه يقوده مجموعة من الكتابات مثل "التفاؤل يغلب اليأس" لنعوم تشومسكي، و"السعادة المتطرفة" للين سيغال، و"أمل بلا تفاؤل" لتيري إيجلتون، و"ما بعد الرأسمالية" لبول ماسون، و"خارج الحطام" لجورج مونبيوت.

في المقابل، يرى الكاتب أن رد الفعل الأفضل تجاه ما يحدث راهنًا وفي النظر إلى المستقبل المأمول يجب أن يستند إلى "التشاؤم الثوري" والذي يعني توقع أسوأ المفاجآت التي قد تنتج عن الحضارة الجانحة، فرغم إشارته إلى عزمه تقديم دليل نجاة، تبدو السخرية الثائرة على المآلات الراهنة هي المسار الوحيد الذي يقترحه بالفعل. وفي هذا الصدد يقول: "علينا أن نجهز أنفسنا لسيناريو أكثر قتامة. أغلب الابتكارات المولودة في المجتمع الصناعي الجديد عدوانية تجاه القيم التحررية. والعنف الكامن في قلب العصر الصناعي الثاني وفي كل مناحي الحياة سيردد صدى بديهياته المؤسِسة".