رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نظرتان على تونس».. كتاب يتناول كيف رسخت «النهضة» فكرة حاجة التوانسة إلى إحياء الدين

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يستهل الباحث الكاتب كارم يحيي٬ كتابه" نظرتان على تونس.. من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"٬ والصادر عن دار الثقافة الجديدة للنشر والتوزيع٬ بسؤال وجهه إلى العديد من المواطنين التوانسة العاديين الذين كان قد قابلهم٬ وهو: "لماذا تنتخبون إسلاميي النهضة؟"، فكانت الإجابة: إنهم عازمون على هذا الاختيار بلا تردد مع أنهم لم يكونوا في أي يوم من بين مناضلي الحركة٬ التي ظلت محظورة وسرية ومطاردة منذ تأسيسها على يد راشد الغنوشي ورفاقه باسم "حركة الاتجاه الإسلامي" في عام 1981.

ويوضح المؤلف: عندما تطرح سؤالا على عدد لا بأس به من الناس، فإنك تتوقع بلا شك أن تتلقى إجابات متنوعة تكشف عن دوافع مختلفة بين هذا وذاك. لكن اللافت هنا أن الإجابة جاءت واحدة موحدة، وربما بنفس العبارة واللفظ: "تونس بلد إسلام.. وننتخب النهضة باش يعيدوه" أي حتى يعيدوه، شواهد جغرافيا المدن التونسية وعمارتها وكأنها تكذب هذه الإجابة الواحدة الموحدة، فالبلد عامر والحمد الله بالمساجد، والآذان يصدح من المآذن خمس مرات.وحتى الرئيس "بن على" نفسه المتهم بمحاربة الإسلام لا “الإسلاميين وحدهم” لعب اللعبة هو أيضا أو لعبوها له. فقد أعيدت كتابة سيرته الذاتية الرسمية في وقت مبكر من حكمه كي تسوق لأنه ولد بين الجدران الأربعة لزاوية "سيدي مخلوف الشفيع"، وبوصف الزاوية مركزا دينيا له دلالته المقدسة عند بسطاء التونسيين. والرجل كان معروضا على شاشات التلفزيون المحلي كأقرانه من الحكام العرب وهو يصلي في المناسبات مرتادا المساجد. كما أن إذاعة "القرآن الكريم" التي يدمنها العديد من بسطاء التونسيين بما في ذلك سائقو التاكسي أسسها بالأصل "صخر الماطري" صهر "بن على ". وحتى سلفه بن على الرئيس  الحبيب بورقيبة هناك من يشكك في علمانيته، أو أنه كان شبيها عربيا لرمز العلمانية التركية ولتطرفها منذ عشرينيات القرن الماضي "كمال  أتاتورك".

و"لطفي حاجي" مراسل قناة الجزيرة الشهير، هو بالأصل دارس لعلاقة الإسلام بالعلمانية في زمن  بورقيبة. وقد انتهى ـ كما قال لي ـ إلى خطأ الاعتقاد بأن الرجل كان علمانيا بمعنى الفصل التام بين الدين والدولة. ولعل من المفارقات التي لا يعلمها التوانسة هنا أن "بورقيبة" كان ضيفا مقيما على مقر جماعة "الإخوان المسلمين" القديم بحي الحلمية الجديدة في القاهرة بين عامي 45 و1949 في عنفوان الجماعة وتألق كاريزما زعيمها ومؤسسها حسن البنا.

ــ هكذا رسخت حركة النهضة في تونس لفكرة حاجة التوانسة إلي إحياء الدين إذن لماذا هذا "العقدة" النفسية المصطنعة لابتزاز التونسيين البسطاء، وكأنهم ناقصو إيمان، وكأن البلد مطعون في إسلاميته؟ هذا أمر يصعب على شخصي تبينه في زيارتي المحدودة الأيام تلك. لكن ثمة خيط رفيع يفصل بين الاستبداد والكفر في عقول العامة هنا في تونس. خيط لا يمكن تبينه إلا بصعوبة. تماما كالخيط الذي يفصل عندهم بين النخبة المتغربة المتفرنسة وبين احتكار السلطة والثروة على مدى أكثر من خمسة عقود منذ جلاء الحامية الفرنسية. وللوهلة الأولى يترسخ الاعتقاد للمراقب القادم من خارج البلاد بأن العامة والفقراء مع "النهضة" والنخبة المثقفة ضدها. لكن الدكتور الصادق بلعيد أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية والذي يتمتع بسمعة ممتازة على نطاق عابر لخطوط التقسيم الأيديولوجي والسياسي ينفي ذلك مطلقا. ويقول لي: "ليس عندنا كما الجزائر نخبة ملحقة بفرنسا تعيش بثقافتها. فقط هناك من ذهبوا إليها للتعلم كما ذهب من ذهب إلى الولايات المتحدة". ويضيف:دعاية النهضة تروج لأنها تسعى للطبقات الشعبية، كما تتصرف الحركة وكأنها اتجاه قومي لا مجرد إسلامي فقط. لكن من الخطأ الوقوع في فخ الاعتقاد بأنها وحدها التي سعت إلى الطبقات الشعبية أو نحت للارتباط بقضايا القومية والأمة. وببساطة لأن لدينا يسارا واتحاد نقابات عريق (الإتحاد العام للشغل) طالما قاموا بهذه الأدوار السياسية. ودفعوا هم أيضا الثمن غاليا في عهود الاستبداد".

ويستطرد كارم يحيى: في رأي "بلعيد" فإن من بين الأسباب الرئيسية في هذا التصويت الكبير لحزب حركة "النهضة " أن نظام بن على قدم الحركة بمثابة المستهدف الأول لقمعه ولدولته البوليسية، وأن الحركة ذاتها عادت وتلقفت الكرة. والأهم أنها عادت لتقدم نفسها إلى التونسيين بوجه حداثي لا يصطدم مع ميراث "البورقيبية" وتيار الإصلاح والتجديد في المجتمع،  بما في ذلك حق المرأة في تطليق نفسها وتجريم تعدد الزوجات، وغيرها من المكتسبات المنصوص عليها في مجلة (قانون) الأحوال الشخصية لعام 1956. ويضيف قائلا:"التونسي مسلم معتدل يحب الاستمتاع بالحياة.. ويتطلع إلى التقدم والحريات الشخصية والعامة في أوروبا حتى ل وقال عن نفسه إنه من أنصار الإسلام السياسي".

لكنني عندما غادرت مقر الاقتراع في مدرسة طارق بن زياد بحي التضامن الشعبي بولاية "إريانة" على بعد نحو 15 كيلومترا من العاصمة تونس استوقفني شاب ملتح  يدعى "على البجاوي".. وقال لي وهو يجاهد غضبه:"جئتم للانتخابات.. أنها كفر". ولما استوضحته استفاض قائلا: "التونسيون يريدون شرع الله لا الديموقراطية. من أقاموا هذه الانتخابات يريدون الحكم للشعب لا الحكم بما أنزل الله. أما الفقراء والعاطلون فهم يريدون شرع الله". ولما سألته عن حزب "النهضة" الإسلامي، أجاب وقد زاد غضبه: "الغنوشي انحرف عن مساره وأصبحنا نكفر به. يجرى وراء الدستور وما الدستور إلإ كفر بشرع الله ودولته". وبالطبع فإن "البجاوي" يقاطع أول انتخابات تجرى بعد الإطاحة ببن على مع أنه لم يكن يجرؤ في عهده على إطالة اللحية. ولكن كم يمثل هؤلاء السلفيون الذين ينتمي إليهم؟ الشاب نفسه أدعى أن أعدادهم في البلاد نحو ثلاثة ملايين (تعداد التوانسة 10,5 مليونا منهم مليون واحد بالخارج). لكن الناشطة النقابية "حد الزين عمامي" تؤكد أنهم لا يزيدون بأي حال عن بضع مئات. وتوضح: "قاموا بأكبر تعبئة منذ نحو أسبوعين قبل يوم الانتخابات. وجلبوا فيها أنصارهم من كل الأنحاء للتظاهر في القصبة بالعاصمة أمام مقر الحكومة احتجاجا على عرض قناة نسمة الفضائية الخاصة فيلما يجسد الله. لم يتجاوزوا بأي حال المئات. وأغلبهم عاد من حيث أتي بعد المظاهرة".

خطاب حركة النهضة المزدوج

"محمد عبو" المحامي والمعارض الشهير في عهد "بن على "بسبب مقال نشره يقارنه برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "شارون" قال لنا أن لحزب "النهضة" خطاب متفتح لأنها تدرك طبيعة الشعب التونسي". لكنه هو الآخر ينضم إلى قافلة كبيرة من نقادها ممن يتحدثون عن خطابها المزدوج في قضايا مدنية الدولة وأصول التشريع وحقوق المرأة. وعلى وقع يوم الانتخابات يصب جام غضبه على تجاوزات الحزب في تقديم الأموال والهدايا للناخبين والاستمرار في ممارسة الدعاية. لكن أخطر ما يشدد عليه هو نكوص "النهضة" عن برنامجها الذي نص على الامتناع عن ممارسة الدعاية السياسية والحزبية في المساجد. وعندما تأتي مثل هذه الانتقادات من "عبو" فإن لها وزنها الخاص لأنه يعد الرجل الثاني في حزب "المؤتمر من أجل المؤتمر للمنصف المرزوقي، والذي يعد حليفا للنهضة و"الغنوشي" والمرشح الآن للمشاركة في حكومة ائتلافية بوصفه الحزب الذي يتقدم إلى المرتبة الثانية بعد "النهضة".

ويلفت "كارم": وعلى أية حال، فقد لمست بنفسي في يوم الاقتراع أن النهضة ـ وكأنها وحدها ـ تمتلك آلة انتخابية ضخمة منظمة ومحترفة وتعمل بكفاءة. ولا تقارن حظوظها واحترافيتها وإمكانياتها بأي من منافسيها. ولعلّ هناك إجابة أخرى على السؤال: "لماذا صوتوا للنهضة؟". وتتلخص في أن قطاعا من التونسيين بما في ذلك الطبقة المثقفة بمعناها الواسع معجبة بـ "النموذج التركي الأردوغاني"، مع أنها لم تختبر يقينا "إسلاميي تونس" أو تنتسب لهم. وهنا يقول "كمال بن يونس" مدير منتدى ابن رشد للدراسات المغاربية:"تونس تتحرك الآن بجاذبية النموذج التركي.. هذا أمر لا مفر منه أمام إسلاميين معتدلين كالنهضة. والأسباب عديدة بينها اعتماد الاقتصاد على السياحة وارتباطه الوثيق بالغرب".

ولعل في قبول الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي بمشاركة "إسلاميي النهضة "في الحكم ما عزز الانطباع لدى الناخبين بأن الأمور ستجري على ما يرام مع الغرب حتى لو جاءوا بالنهضة. والمتابع للصحافة والإعلام في  تونس يلاحظ على مدى الأيام القليلة الماضية ترحيبا من  مراكز صنع القرار الغربية بإدماج "الإسلاميين" ممثلين "بالنهضة " في العملية الديموقراطية. وثمة رسائل واضحة بقبول من يأت به صندوق الاقتراع أيا كان. وفي هذا السياق، كان "الغنوشي" قد قال لـ "الأهرام" في حديث مطول نشرته في 11 أكتوبر 2011 بأن الأمريكيين والأوربيين أعطوا الحزب تطمينات كافية على قبوله دوليا. ولما سألناه عن الاقتصاد أشار إلى قناعة حزبه بالاقتصاد الحر مع قدر من المسئولية الاجتماعية. وقال لي مصدر وثيق الصلة  بـ"الغنوشي" أن مقر الحزب الرئيسي في "مونبلييز" وعلى مقربة من شارع "خير الدين باشا" بالعاصمة لا يكاد يهدأ من استقبال الوفود الدولية وبخاصة الأمريكية والأوربية منذ افتتاحه قبل أشهر قليلة.

لكن هناك وجهة نظر أخرى تقدمها المناضلة النقابية "عمامي" عن مناضلي "النهضة الإسلاميين"  تنطوي على قلق إزاء مستقبل الثورة التونسية. تقول: "الثورة قامت ضد الاستبداد ومن أجل العدالة الاجتماعية والآن تجرى سرقتها لحساب الخيار الليبرالي حتى إسلاميو النهضة يتقدمون للعالم الآن وكأنهم ليبراليون". وتضيف: "حقا هم مناضلون٬ لكن أين كانوا أيام الثورة حين لم يرتفع شعار إسلامي واحد. وقبلها أين كانوا حين كنا نقاوم الدكتاتورية على الصعيدين السياسي والاجتماعي. لا أقول إنهم لم يتعرضوا للقمع والاعتقال. لكن هذا الاضطهاد كان لرغبتهم في إنجاز انقلاب على السلطة ليس إلا كما أن غيرهم أيضا تعرض للقمع والاعتقال".

ولما سألتها: " لكن ها هم يحصدون كل هذه الأصوات وثقة الناس؟". أجابت: "شعبيتهم مستمدة من غياب الثقافة السياسية ونتيجة الفقر ولدورهم في العمل الخيري. وإلى جانب كل ذلك حملة التضليل الواسعة التي تقدموا بها للرأي العام عن اعتدالهم وحداثتهم. لقد أنفقوا أموالا طائلة تفوح منها رائحة بترودولار الأنظمة العربية المحافظة".

ولعل السبب الأكبر في رأي هذه المناضلة النقابية في الفوز الكبير لمناضلي النهضة الإسلاميين أن إتحاد الشغل انسحب من ساحة السياسة. وترك غياب دوره التاريخي كقوة وازنة أمام سلطة الإدارة والحكم فراغا ملأه رجال الغنوشي.