رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تغلغل الجماعات الإرهابية.. تاريخ لن ننساه (11)

في منتصف الثمانينيات بدأت تتغلغل الجماعات في معظم قرى مصر، لتمارس دور الحكومة، في غيبة رجال السلطة تمامًا، تشكلتْ في كلِ قريةٍ منْ قرى المحافظاتِ السابقةِ إمارة تعتبرُ أصغرَ وحدة أساسية في النظامِ الإداريِ للجماعاتِ الإسلاميةِ. وتمَ تعيينُ أميرٍ لكلِ قريةٍ يبايعهُ أعضاءُ الجماعاتِ الإسلاميةِ في القريةِ. وللإمارةِ مجلسُ شورى. كما تم تعيينَ أميرٍ لكلِ مجموعةٍ منْ القرى حسبَ التقسيمِ الإداريِ للمراكزِ والقرى. 
وكانَ أميرُ المدينةِ أوْ المركزِ يبايعهُ أمراءُ القرى، ولكلِ مركزِ أوْ مدينةِ مجلس شورى. كما تمَ تعيينُ أميرٍ لكلِ محافظةٍ يختارُ منْ أعضاءِ مجلسِ الشورى. كانَ لكلِ إمارةٍ مقر، وهوَ مسجدٌ يتبعُ المنطقةَ الموجودةَ فيها الإمارةُ، وكانَ هذا المسجدِ بمثابةِ دارِ مقرٍ إداريٍ للإمارةِ. وكانَ اختيارُ الأمراءِ يتمُ بعنايةٍ شديدةٍ، ولا بدَ أنْ تتوافرَ فيهمْ الطاعةُ المطلقةُ للأميرِ. والقدرةُ على الإقناعِ والتأثيرِ في الآخرينَ، وهوَ الذي يؤمُ المصلينِ منْ أتباعهِ. وعندَ تعيينِ الأميرِ تؤخذ لهُ البيعةُ منْ الأمراءِ. ويجلسَ الأميرُ في صدرِ المجلسِ، ويأتي الأعضاءُ لمبايعتهِ على السمعِ والطاعةِ، وبعد أنْ تكتملَ البيعةُ يقسمُ الأميرْ على إمامهمْ على المصحفِ الشريفِ أنْ يعملَ بكتابِ اللهِ وسنةِ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، وأنْ يعمل لمصلحةِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِ، ويعملَ لمصلحةِ الجماعةِ، ثمَ يلقي خطبه مقتديًا فيها بسنة الخلفاءِ الأوائلِ للمسلمينَ. 
وعندما كانَ أميرُ المحافظةِ يزورُ أيَ مركزِ منْ المراكز، ِ يتحركُ في موكبٍ يسبقهُ عددٌ منْ راكبي الدراجاتِ الموتوسيكلات علنًا في طرقاتِ المحافظةِ. كما كانَ يصطفُ لتحيتهِ أمراء المراكزِ وبعض الشخصياتِ البارزةِ منْ أهالي المركزِ المتعاطفينَ معَ الجماعاتِ الإسلاميةِ. 
وبدأت الجماعةُ في الظهورِ العلنيِ. وتشكلتْ دورياتٌ منهمْ تطوفُ مدنِ الصعيدِ لمنعِ الشبابِ منْ ارتداءِ الملابسِ الخليعةِ التي تكشفُ عنْ أجزاءِ الجسمِ، وإجبارَ النساءِ المسلماتِ على تغطيةِ رءوسهنَ، وتجولتْ تلكَ الدورياتِ في طرقاتِ الجامعاتِ لمنعِ الطالباتِ منْ ارتداءِ الملابسِ الفاضحةِ التي تبرزُ المفاتنُ. 
وفي المدنِ والقرى منعوا الرجالُ منْ الاختلاطِ بالنساءِ في الأسواقِ، ومنعوا التعرضَ لهنَ في الشوارعِ، وإجبارَ الرجالِ البالغينَ على التوجهِ للمساجدِ لتأديةِ الصلاةِ. 
وخلالَ ذلك وقعتْ حوادث تعدٍ على بعضِ الطلبةِ والطالباتِ منْ الذينَ رفضوا الانصياع إلى تعليماتهم. 
الغريب أنَ إدارةَ الجامعاتِ وبعض الأساتذةِ والمحاضرين اضطرَ إلى التوقفِ عنْ الدرسِ خلال فترةِ صلاةِ فريضتي الظهرَ والعصرَ. 
وهاجمتْ تلكَ الدوريات فرقَ الغناءِ التي استقدمتها بعضُ الأسرِ الجامعيةِ ضمنَ أنشطتها الثقافيةِ، وحطمتْ معداتُ الفرقِ وأدواتها. ومنعتْ الحفلات المصاحبة لحفلاتِ الزواجِ والختانِ التي كانتْ تعقدُ للغناءِ ويحييها المطربونَ الشعبيونَ بالربابةِ أوْ المزمارِ البلديِ. وقامتْ الجامعاتُ بإحياءِ بعضِ السننِ المتروكةِ ومنها منعُ إقامةِ السرادقاتِ لتلقي العزاءِ، وأحيوا سنةَ العزاءِ عندَ القبرِ. 
وأبطلوا الأدعية التي كانَ يلقيها المؤذنُ عقبَ كلِ أذان. ومنعوا النساءَ منْ زيارةِ القبورِ، كما منعوا كافة الناسِ منْ زيارةِ أضرحةِ الأولياءِ المنتشرةِ في كلِ القرى وتقديمِ النذورِ لها. واعتبروها عادات وثنيةً. 
كما توقفتْ المدارسُ الحكوميةُ في بعضِ المدنِ والأريافِ عنْ تأديةِ التحيةِ للعلمِ المصريِ في الصباحِ، ومنعوا عزفَ المقطوعةِ الموسيقيةِ المعبرةِ عنْ السلامِ الوطنيِ. 
غابتْ الحكومةُ تمامًا عن المشهد، أوْ سكتتْ عنْ تصرفاتِ الجماعاتِ الإسلاميةِ في بلادها. الأمرُ الذي أدى إلى ثقةِ الناسِ في شبابِ تلكَ الجماعاتِ لما تحلى بهِ هؤلاءِ منْ صفاتٍ إسلاميةٍ وخلقٍ قويمٍ واستقامةٍ وأمانةٍ، وبعدهم عنْ اللهوِ، وحفظهمْ للقرآنِ الكريمِ وحسنِ تلاوتهِ وترتيلهِ بصوتٍ رخيمٍ، وإجادتهمْ لتعاليمِ دينهمْ. كلُ هذهِ الأسبابِ جعلتْ الناسَ تميلُ إليهمْ، وتعجل بحضورِ نداوتهمْ، والاستماع إلى خطبهمْ التي يلقيها شيوخهم والتي يشتمونَ فيها الحكومة ووزراءها علنا. وينعتوهمْ بالألفاظِ الدنيئةِ والخسيسةِ، ثمَ ينزلُ الخطيبُ منْ فوقِ المنبرِ ويصلي بالناسِ، ويخرجَ منْ المسجدِ مبتهجًا يحيطُ بهِ أعضاءُ الجماعةِ دونَ أنْ يتعرضَ لهُ أحدِ المخبرينَ، أوْ يتصدى لهُ أحدِ رجالِ الحكومةِ الذينَ يحرسونَ المسجدُ، وفي بعضِ الأوقاتِ كانَ الأهالي ينتظرونَ خارجُ المسجدِ ويقبلونَ يدهُ.
تلاشتْ قبضةَ الدولةِ تمامًا عنْ أعضاءِ الجماعاتِ الإسلاميةِ. ومعَ اقترابِ الأعيادِ سواء كانتْ أعياد المسلمينَ أوْ المسيحيينَ تعلنُ حالةَ الطوارئِ في وزارةِ الداخليةِ وجميعِ مديرياتِ الأمنِ على مستوى الجمهوريةِ، ولا يسمحُ للضباطِ بمغادرةِ مقارِ أعمالهمْ لحينِ انتهاءِ الأعيادِ. وفي المقابلِ تجري الاستعداداتُ بينَ أفرادِ الجماعاتِ الإسلاميةِ للخروجِ بمسيراتِ ليلةِ عيدِ الفطرِ لإعلامِ الناسِ بانتهاءِ شهرِ الصومِ ورؤيةِ هلالِ شوالِ والمناداةِ بصلاةِ العيدِ في الخلاءِ. كما يتمُ الإعلانُ عنْ الأماكنِ التي سيصلونَ فيها صلاة العيدِ، ويعلنونَ أنهمْ سيخصصونَ أماكنَ للسيداتِ وتقديمِ هدايا للأطفالِ، وفي أغلبِ الأحوالِ يتمُ فيها توزيعُ المنشوراتِ ولصق إعلاناتٍ على الحوائطِ والهتافِ ضدَ الأقباطِ والحكومةِ ورئيسِ الجمهوريةِ ووزيرِ الداخليةِ. 
وقداعترف اللواءُ حسن الألفي صراحةً بتردي الأوضاعِ الأمنيةِ فقالَ: "إنَ الوضعَ الأمنيَ بصفةٍ عامةٍ كما يعرفهُ الرأيُ العامُ كله في ذلكَ الوقتِ عندما كانَ محافظًا لأسيوط قد وصلَ إلى طريقٍ مسدود"، كما قالَ حسن الألفي: "الجماعاتُ الإرهابيةُ كانتْ قدْ تغلغلتْ في بعضِ القرى، وأصبحت هي التي توجد حلولاً لمشاكلِ المواطنينَ، حتى إن بعضَ أجهزةِ الأمنِ عندما تكونُ هناكَ مشكلةُ ما في إحدى القرى، كانَ رجالُ الأمنِ يقولونَ: اذهبوا إلى "الأميرِ" فلان أو "الشيخِ" فلان لكيْ يحلَ لكمْ المشكلةُ"، تصوروا رجلُ الأمنِ يقولُ هذا الكلامِ، لقدْ كانَ شيئًا خطيرًا جدًا، أيضًا لم يكن هناكَ تعاونُ بينَ مديريةِ الأمنِ والمحافظةِ.
يتبع