رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إثيوبيا وإفساد موسيقى خرير المياه

بتنا في حاجة إلى حل جذري ينهي أزمة السد الإثيوبي للأبد.. حل لا يكلفنا وراءه كثيرًا وإلا فهو ليس حلاً مرجوًا.. لقد جربنا التفاوض وفشل وجربنا اللجوء إلى مجلس الأمن ولكن لم تصدر عنه قرارات إلزامية، وإنما توصيات لا تقدم ولا تؤخر، بجانب التعنت الإثيوبي المستمر الذي يعكس استقواء بكيان مجهول شرير، سمح الإثيوبيون له أن يرتدي قناعهم، ويتكلم بلسانهم، ويعمل بأيديهم، وقد تعبنا، وبدأ شعورنا بالقلق والارتياب يتصاعد؛ إذ ندور في الدائرة المفرغة نفسها!
مصر قوية وقادرة على حماية نيلها الذي تساوي حياته حياتها في الصميم، غير أنها، بالرغم من كل الخيارات المفتوحة، لا تحبذ الإسراع بتوجيه ضربة عسكرية، ستكون لها آثارها بالغة الضرر على السودان الشقيق الذي هو شريكها في الاعتراض على طغيان السد الإثيوبي وحليفها طوال أشواط القضية المعقدة، أعني التي صارت كذلك بسبب الصلف الإثيوبي العجيب، وستكون له آثاره السلبية على إفريقيا كلها، ومنطقة الشرق الأوسط، والعالم بأسره بنسب متفاوتة.. وما زالت مصر العظيمة تفضل التوصل لاتفاق قانوني نهائي ملزم ينظم عمليتي الملء والتشغيل برعاية الاتحاد الإفريقي وتحت أنظار الأمم المتحدة.
في الوقت نفسه، لو أصر الجانب الإثيوبي على ما يبدو مصرا عليه فعليا من إتمام الملء الثاني للسد ثم تشغيله؛ فإن خطرا كبيرا يحيق بنا وبالسودان، واستشعارنا قرب هذا الخطر هو بالأساس ما كان حركنا ناحية العالم ومجالسه المعتبرة لفض النزاع القائم المريب. 
أنا مع هذا التحرك، بالمناسبة، حتى لو لم يكن مردوده المباشر إيجابيا، بل أراه ذكيا ومحسوبا، لأنه إعلام للعالم بأننا في مأرق رهيب تسببت فيه دولة بغت على دولتين، منفردة بقرار من شأنه تحطيم آمالهما في المستقبل، وإذا أخفقت مساعينا، وهذا وارد للأمانة، كان مبررنا للضربة القاصمة الحاسمة منطقيا، ومفسَّرًا بالأوراق التي لا تحتمل الجدل ولا التأويل، الأوراق التي كنا تقدمنا بها إلى المتابع الخارجي المفترضة حياديته، صادقة وافية، تشرح الموضوع، مقربة أبعاده وكاشفة ملابساته ومحددة ما نريده بدقة، وربما عجزت الإمبراطوريات العالمية حينئذ عن أن توقع بنا عقوبة أو تتصيد لنا خطأ كما دأبت أن تفعل في حالات شبيهة!
لدينا احتياطيُّ مياهٍ من النيل.. لكنه قد يكفينا عامين أو على الأكثر ثلاث، تحدث بعدها مجاعة مائية حقيقية في البلاد (لا قدر الله) تختفي معها مساحات كبيرة من الزروع، وتضمحل صناعات، وتتأثر كافة الأنشطة، والمصيبة الكبرى وقتئذ إحساس البشر بندرة المياه، بعد أن كانت وافرة، وربما دخولهم في حروب دامية من أجل الحصول عليها لإعمار بيوتهم التي كالخرائب بإفساد الإثيوبيين لموسيقى خرير المياه.. 
الموضوع بالغ الصعوبة؛ فلا يصح سكوت بحياله، لكنه هيِّن على المصريين لو  جعلوه مُنْطَلَقًا لمحو العدم وإثبات الوجود!