رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحمّار والخمّار والعطّار.. و«الفرنجة»

لم يكن يوم الأربعاء الموافق ٢٠ من شهر المحرم الحرام عام ١٢١٣ هجرية «١٧٩٨م» يومًا عاديًا فى حياة المصريين، ففى صبح ذلك اليوم وصلت مكاتبات من ثغر الإسكندرية ودمنهور ورشيد تقول إن مراكب فرنسية عديدة وعبارة بحرية عظيمة ترسو منذ يومين على شاطئ الإسكندرية وتتأهب لاقتحام الثغر.

صعب للإنسان العادى أن يضبط أعصابه أمام خطر مجهول يحدّق به من بعيد ولا يعلم ماذا سيصيبه منه. تاريخ هذا الشعب مع الألم يجعله أميَل إلى التشاؤم وتوقع الأسوأ فى مواجهة أى خطر.

كذلك كانت حال المصريين عندما سمعوا الأخبار الواردة حول هجوم بونابرتة على الإسكندرية، انتابتهم حالة من الهلع، حمل بعضهم متاعه وعياله ومضى بهم إلى أى وجهة يتوقع ألا تكون ساحة مواجهة بين الفرنسيين الغزاة والمماليك، نهض أهل الأرياف يهاجمون بعضهم البعض، تحرك العربان من أطراف المدن والقرى وتسللوا إلى الداخل وأخذوا ينهبون ويفجرون بكل ما ومن تصل إليه أيديهم، انتشر اللصوص والشطار والزعار فى كل اتجاه، خصوصًا عندما يرخى الليل ستائره على الحوارى والعطفات والأزقة.

الكبار فقط هم من كانوا يعرفون وجهتهم، والكبار هم الأعيان والتجار وأصحاب المناصب الرفيعة، مثل الشيخ حسن العطار. إنه الصعيد الجوانى، تلك البقعة التى تعَود المماليك الفرار إليها فى مواجهة أى انكسار يقابلونه فى القاهرة، اكتسب هذه العادة منهم كل ذى حيثية من المصريين أو المهاجرين من بلاد المغرب والشام ممَن صهرتهم مصر فأصبحوا مصريين.

فى ذلك الحين كان الشيخ حسن العطار عالمًا بارزًا من علماء الأزهر يرفل فى العام الثانى والثلاثين من عمره، مواهب عديدة كانت تنطوى عليها شخصيته، فقد كان تاجرًا حاذقًا تعلم التجارة من أبيه، وكان عالمًا متبحرًا فى علوم الشرع، وشاعرًا وأديبًا له إبداعاته، والأخطر أنه كان صاحب رؤية إصلاحية لم تتوقف عند حدود الأزهر، بل تجاوزته إلى المجتمع ككل، فقد كان «العطار» مراقبًا جيدًا لأحوال المجتمع من حوله، ويمتلك الجرأة والقدرة على انتقاد ما يراه معوجًا فى سلوك من حوله.

مع دخول الفرنسيين إلى القاهرة فر الشيخ حسن العطار إلى الصعيد مع مجموعة من الوجهاء، ومكث هناك لمدة تقترب من عام ونصف العام، ثم قرر العودة إلى مصر بعد استقرار الأمور. 

أكثر ما لفت نظر «العطار» وهو يتابع أنشطة الفرنسيين فى مصر هو النشاط العلمى، فزار المجمع العلمى واحتك بعلماء الحملة، وانبهر بالشوط الذى قطعوه فى مضمار العلم، وفهم منهم الكثير من العلوم والفنون، وقطع عهدًا على نفسه وهو يراقب هذا النشاط أن يدعو المصريين إلى الأخذ به، ليقيموا حياة جديدة عليه، حياة تمزج بين قيم الإسلام الأخلاقية والروحية وقيم الغرب العلمية.

ورغم انشغال الشيخ العطار بمتابعة نشاط علماء الحملة وعلومهم وفنونهم فإنه كان دءوبًا أيضًا فى متابعة تفاعل الشارع المصرى معهم، ويتعجب من أمر المصريين الذين انطلقوا إلى التعامل مع الفرنسيين بعد أن اطمأنوا إليهم، وبدأوا يتاجرون عليهم ويحولونهم إلى مادة للمكسب، والأدهى من ذلك أن قلة منهم بدأت تقلد سلوكياتهم ومسلكهم فى الحياة.

لاحظ الشيخ العطار أن المصريين تخلوا عن العديد من عاداتهم مع دخول الفرنسيين. كان أغلبهم يخشى أن يوغر صدر الفرنجة، على سبيل المثال، بالاحتفال بموالد الأولياء فعالجوا أمرهم بالاحتشام كما يصف «الجبرتى»، ثم بدأوا فى ممارسة هذه العادات على استحياء وبالتدرج، ففوجئوا بالفرنسيين غير ممانعين، بل ويسايرونهم فيها، فتوسعوا فى إقامة الموالد والاحتفال بالأولياء وذهبوا بها كل مذهب.

كانت الظروف المعيشية مُرة وموجعة فى ذلك الوقت، فالحصار الذى ضربه الإنجليز حول ثغر الإسكندرية أوقف الصادر والوارد، فقلت السلع فى الأسواق وارتفع ثمنها، وقلت الأعمال ولم يعد هناك طلب على أصحاب الحرف والصناعات، وضرب البلاد نوع من الكساد العام الذى اضطر الكثيرين إلى العمل فيما يصفه «الجبرتى» بـ«الحرف الدنيئة».

حوّل بعض أصحاب الدكاكين نشاطهم، فتخلوا عن عملهم التجارى بسبب كساد الحال وحولوا دكاكينهم إلى مطاعم لبيع الفطير وقلى السمك وطبخ الأطعمة والمأكولات وبيعها للفرنسيين، وحوّل آخرون دكاكينهم إلى مقاهٍ، اختلفت فى نوعية الخدمات التى تقدمها تبعًا لقدرة زبائنها على الدفع، فبعضها كان يقدم العزف والغناء، وبعضها كان يكتفى بمُنشد على الربابة، وبعضها كان يكتفى بتقديم المشروبات والدخان.

كذلك فعل مَن كان يملك دكانًا فى ذلك الزمان، أما الأقل قدرة من الناحية الاقتصادية، فقد لجأ أغلبهم إلى وظيفة المكارى، فكان أحدهم يشترى حمارًا ويؤجره للفرنسيين ليتجولوا به فى أزقة وعطفات القاهرة وأحيائها وميادينها. 

راج نشاط «الحمّارين» فى مصر فى ذلك الزمن بسبب ولع الفرنسيين بركوب الحمير لغاية أو بدون غاية كما يشير «الجبرتى»، فكان أغلبهم يمتطى ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجرى به مسرعًا فى الشارع، وكانت الجماعة من الفرنسيين تنظم ما يمكن وصفه بـ«سباق الحمير». وما أكثر ما كان يتعرض الأهالى البسطاء للدهس تحت أرجلها، مما كان سببًا فى غضبهم، وربما قيامهم بعد ذلك بثورة القاهرة الثانية.

استفاد «الحمّارون» كثيرًا من ولع الفرنسيين بالحمير، وحقق بعضهم أرباحًا جيدة من وراء هذه اللعبة، فمع تعاظم الطلب وقلة العرض غالى أصحاب الحمير فى أجرتها، فجمعوا الكثير من المال الذى كانوا ينفقونه مساءً فى الحانات والخمارات.

لاحظ الشيخ حسن العطار حالة الاندماج التى بدأت تحدث ما بين المصريين والفرنسيين فى مواكب الحمير، وشاهد الوجوه وهى تبتسم وسمع أصوات الصياح والضحك والغناء الذى يختلط فيه المصرى بالفرنسى والمسخرة التى لمّت شمل الجميع، ولاحظ أيضًا الصحبة التى بدأت أيضًا ما بين الفرنسيين والمصريين فى حانات الخمر، فعلق على ذلك ببيتين من الشعر قال فيهما: «إن الفرنسيس قد ضاعت دراهمهم فى مصرنا بين حمّار وخمّار.. وعن قريب لهم فى الشام مهلكة يضيع لهم فيها آجال وأعمار».

هذه الكلمات المعبرة تشهد أننا بصدد عقل يفهم ما لدينا من قيمة تقيم صلبنا الإنسانى، وما لدى الآخر من قيمة تغيب عنا. فقد انبهر المصلح الكبير الشيخ حسن العطار بعلم الفرنسيين واختراعاتهم، لكنه نفر من سلوكهم الإنسانى، ونفر أكثر من اندماج المصريين معهم فى لعبة الخمر والحمير، فى وقت كان الشاب «العطار»- فى ذلك الحين- يحلم بمصر جديدة ناهضة ومتقدمة ومتنورة وآخذة بأسباب العلم.