رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإسكان الجامعى الطلابى في مصر بين المجانية والخصخصة (1/2)

جريدة الدستور

شهد العالم في السنوات القليلة الماضية تغيرات كبيرة وسريعة أدت إلى حدوث زيادة هائلة في حجم المعلومات وظهور تخصصات ونماذج معرفية جديدة من خلال العلوم البينية التي لم تكن موجودة من قبل، كما أدت أيضاً إلى زيادة في انتشار مفاهيم الديموقراطية، وتغير مفهوم العولمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وتوقيع معظم دول العالم على اتفاقية التجارة العالمية وعولمة رأس المال ومحاولة تدويل العمالة وتطبيق مبادئ اتفاقية تجارة العالمية على الخدمات. وقد أثرت هذه التغيرات على التعليم بصفة عامة والتعليم الجامعي بصفة خاصة باعتباره الوسيلة الفاعلة في مواجهة هذه التغيرات من خلال إعداده لجيل من المتخرجين يتميز بالقدرة على الإبداع والمنافسة في سوق العمل المحلي والإقليمي والدولى في حالة التطبيق الكامل لمفاهيم انتقال العمالة على المستوى الدولي، وحتى تتمكن مؤسسات التعليم الجامعي من القيام بهذه المهمة لابد من توفير التمويل اللازم الذي يساعدها على ذلك. 
والواقع أن معظم أنظمة التعليم الجامعي فيالعالم تواجه عجزًا في الموارد المالية، الأمر الذي يؤثر سلبًا على تحقيق أهدافها،ويعزي ذلك إلى عوامل كثيرة، يأتي في مقدمتها: النمو السكاني السريع؛ حيث تتزايد أعداد الطلاب في سن التعليم الثانوي بشكل مطرد، ومن ثم يرتفع عدد الراغبين في الالتحاق بمؤسسات التعليم الجامعي، وارتفاع تكلفة تعليم الطالب في المرحلة الجامعية مقارنة بتكلفته في أي مرحلة تعليمية أخرى، وكذا ارتفاع تكلفة الخدمات الجامعية المختلفة مثل خدمات الإسكان الطلابي والتغذية وغيرها من الخدمات الجامعية التي لا ترتبط بشكل مباشر بالعملية التعليمية أو البحثية  للجامعة.
وفي ضوء ذلك بُذلت جهود كثيرة، وأجريت دراسات عديدة من جانب مؤسسات دولية واقتصاديين وأكاديميين ومنظرين حول تأمين مصادر لتمويل تكلفة التعليم الجامعي والخدمات غير التعليمية التي تقدم للطلاب من خلاله، وكانت كلها تدور حول الإجابة عن عدة تساؤلات مهمة: هل تتحمل الدولة هذه التكلفة منفردة؟ أم تتحملها الدولة ومعها الطالب وأسرته والمؤسسات التي تستفيد من الطلاب بعد تخرجهم؟ أم تتحملها جهات أخرى؟ وكيف يكون التوازن بين الموارد العامة والخاصة في التمويل في حالة الاعتماد عليهما معاً؟ وهل من الضروري أن تتحمل الدولة تكلفة بعض الخدمات مثل الإسكان الطلابي لكل من يطلبه؟ وبالطبع هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى إجابات تتناسب مع ظروفكل دولة، ومن ثم يمكن القول بأن تمويل التعليم بصفة عامة والتعليم الجامعي بصفة خاصة من أكثر القضايا جدلاً في مجال اقتصاديات التعليم.
وفي مصر، تُعد الحكومة هي المصدر الرئيس لتمويل التعليم الجامعي الحكومي؛ حيث إن الدولة وحدها - دون أفرادها ومؤسساتها -هي المسئولة عن تمويل الإنفاق على الجامعات الحكومية باعتبارها مؤسسات الدولة التي تقدم التعليم بالمجان طبقًا للدستور؛ حيث تبلغنسبة التمويل من الاعتمادات الحكومية حوالي (75%) من إجمالي الإنفاق وحوالي(15%) من الصناديق الخاصة وحوالى10% من مصادر أخرى. وعلى الرغم من أن جملة ما خصصته الحكومة المصرية للإنفاق على التعليم الجامعي قد زاد في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، الأمر الذي ترتب عليه ارتفاع نصيب الطالب من الإنفاق العام على التعليم الجامعي، إلا أن أعداد الطلاب المقيدين بالجامعات المصرية الحكومية قد زادت بشكل ملحوظ أيضًا.
وقد ترتب على هذا الوضع عدم كفاية الموارد التي تقدمها الحكومة للإنفاق على التعليم الجامعي والخدمات المختلفة التي تقدم من خلاله ، وأصبح الأمر يستلزم ضرورة البحث عن طرق ومصادر جديدة للإسهام في تمويل الخدمات التي تقدم في التعليم الجامعي خاصة في ظل ظهور متغيرات عديدة لعل في مقدمتها الانفجار في أعداد الطلاب الراغبين في الالتحاق بالتعليم الجامعي ، وارتفاع تكلفة تعليم الطالب بالجامعات، وسعي الجامعات إلى تحقيق مستوى معرفي يساعد المتخرجين على المنافسة في سوق العمل العالمي ، وتدفق نسب أعلى من الطلاب للدراسات العليا، وزيادة تكاليف الإنفاق على الخدمات الطلابية .
ويمكن إجمال مشكلات تمويل الخدمات الطلابية الجامعية في مصر وكثير من دول العالم في عدم كفاية الموارد المالية وسوء تخصيصها وانخفاض كفاءتها، ومن ثم فقد شهدت الفترة  منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن مجموعة من الجهود والإصلاحات المهمة في كثير من دول العالم المتقدم والنامي حول تمويل هذه الخدمات ، وقد كان الشيء الملفت للنظر في هذه العملية وجود تشابه بين النماذج الإصلاحية التي تم إتباعها في كثير من الدول على الرغم من اختلاف النظم الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والتقاليد الجامعية السائدة في كل منها ، وكذا المستوى الصناعي والتكنولوجي الذي وصلت إليه . 
ومن متابعة المنفق على الخدمات الطلابية في الجامعات المصرية يتضح أنه كبير مقارنة بالإنفاق الجاري كما هو منشور في الحسابات الختامية للجامعات ، وكذا بالنسبة لنصيب الطالب منه بالمقارنة بنصيبه من الإنفاق على تحسين التعليم أو من الإنفاق العام على التعليم الجامعي ، وفي ظل محدودية التمويل الحكومي وعدم كفايته لتقديم تعليم جامعي وخدمات لجميع الطلاب بالجودة والكفاءة التي تسمح بالمنافسة في السوق العالمي من ناحية، وفي ضوء مجانية التعليم التي ينص عليها الدستور المصري من ناحية أخرى يصبح من الضروري إعادة النظر في الخدمات الطلابية  غير التعليمية والبحثية التي تقدمها الجامعات بالمجان أو بأسعار بسيطة؛ بحيث تتحمل جهة أخرى تكلفة هذه الخدمات أو جزءًا منها.
وتتخذخصخصة خدمات التعليم الجامعي المتبعة في معظم الدول ثلاثة أنماط، تشمل: أولا: دول تتبع خصخصة جادة للتعليم الجامعي؛ بمعنى أنها تسمح للقطاع الخاص بإنشاء وإدارة وتمويل خدمات جامعية دون تقديم أي إعانة أو تمويل لها من الدولة ولكن تحت إشرافها، ومن بين هذه الدول تايلاند وماليزيا.ثانيًا: دول تتبع خصخصة معتدلة لخدمات التعليم الجامعي؛ بمعنى أنها تسمح للجهات الأهلية بإنشاء خدمات جامعية ولكن مع وجود دعم ومساعدة من الدولة على الرغم من أن القطاع الخاص هو الذي يتولى إدارتها، ومن بين هذه الدول اليابان والفلبين وتايوان.ثالثاً: دول تتبع خصخصة بسيطة للتعليم الجامعي؛ حيث تتولى الدولة مسئولية إنشاء وإدارة وتمويل خدمات جامعية، ولكنها في الوقت نفسه ترحب بمصادر التمويل الخاصة والأهلية، ومن بين هذه الدول الصين وفيتنام والهند وباكستان وروسيا.
وتتخذأيضًا المشاركة بين الجامعات وأي جهات أخرىعدة أنماط وفقًا للهدف منها، ومن ثم فإن أول مهمة تواجه الجامعة عند مشاركة أي جهة أخرى في إقامة مشروع خدمي  كالإسكان الطلابي تتمثل في تحديد الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من وراء هذه المشاركة ، والتي يمكن إجمالها فى : توفير التمويل ، وحماية المشروع من تحمل الديون ، وتحسين كفاءة المشروع من خلال تقليل الكلفة وتعظيم الاستفادة ، وتنويع الاختيارات أمام المستفيدين، واكتساب الخبرة الضرورية في مجالات التطوير أو التشغيل ، والتعجيل بعملية التطوير ، وتجنب المخاطرة المتعلقة بالتصميم والبناء والتشغيل .
       وتتحدد الجوانب الرئيسة للمشاركة بين الجامعات والقطاع العام أو الخاص في أربعة جوانب تشمل: الملكية والبناء والتمويل والإدارة. فإذا كانت الجامعة تهيمن على كل هذه الجوانب، كان ذلك هو المدخل التقليدي الذي لا يترك للقطاع الخاص إلا أقل القليل من الخدمات، وعلى العكس من ذلك إذا لم تهيمن الجامعة على أي من تلك الجوانب المذكورة، يكون المشروع مخصخصًا بالكامل، وفي هذين النموذجين المتناقضين تتقلص تمامًا أوجه المشاركة بين الجامعة والقطاع الخاص، في حين تكون هناك صور عديدة للمشاركة بينهما في الأنماط التي تتخلل هذين النمطين.
والواقع أن قطاع التعليم الجامعي الخاص بات من أكثر قطاعات التعليم العالي حيوية وأكثرها نمواً في العالم منذ بداية الألفية ، ومن ثم فقد لجأت كثير من دول العالم المتقدم والنامي في السنوات القليلة الماضية إلى تطبيق أسلوب خصخصة  بعض الخدمات في مجال التعليم الجامعي  الحكومى كسبيل لتحويل جزء من تكلفة التعليم الجامعي الحكومي من دافعي الضرائب إلى جهات أخرى، ومن بين هذه الدول في قارة آسيا اليابان والصين والفلبين وكوريا وباكستان وتايلاند وماليزيا ، وفي أمريكا اللاتينية البرازيل والمكسيك وكولومبيا وبيرو وفنزويلا ، وفي وسط وشرق أوربا دول الاتحاد السوفيتي السابق وجمهورية التشيك، وفي إفريقيا جنوب أفريقيا ومصر وأوغندا وإثيوبيا وكينيا ، و يعود ذلك إلى زيادة الطلب الاجتماعي غير المسبوق على الالتحاق بالتعليم الجامعي في تلك الدول مع ضعف مقدرة الحكومات أو عدم رغبتها في تقديم الدعم اللازم له. 
وفى هذا السياق يحدد (فرتز)  في أحد التقارير السنوية التي قدمها حول خصخصة التعليم الجامعي في الولايات المتحدة عدة أسباب لضرورة خصخصة قطاع الخدمات الطلابية  غير التعليمية أو البحثية ، تشمل: الارتفاع الكبير في تكاليف تلك الخدمات ؛ بما تتضمنه من تكاليف لصيانة الأجهزة والمعدات وأجور وحوافز للعاملين صارت من الأمور التي يصعب على أي دولة أن تتحملها  منفردة،  وعدم قدرة كثير من الجامعات على تحمل تكاليف التجديدات اللازمة لإعادة الخدمة إلى حالتها الأصلية ، وعدم امتلاك كثير منها أيضًا لكل الخبرات والتقنيات الضرورية لتقديم الخدمة بالكفاءة والمستوى المطلوب ، وذهبإلى أن خصخصة الخدمات الجامعية غير التعليمية أو البحثية  أو جزء منها يساعد على إخراج الجامعات من نطاق تقديم خدمات لم تكن من اختصاصها في الأصل ، والاستمرار في تقديم هذه الخدمات بعيداً عن البيروقراطية ودورات الموافقة داخل الجامعة وخارجها، وتجنب نقد الذين يعتقدون أن مؤسسات التعليم الجامعي يجب أن تنأى بنفسها عن الدخول في منافسات معالشركات الخاصة، هذاإلى جانب تخلُص الجامعات من المشكلات التي ترتبط بتقديم هذه الخدمات ، ومن ثم توفير الوقت والجهد والمال لأداء رسالتها المحورية وهى التعليم والبحث العلمى.
والواقع أن هناك عدة عوامل  شبيهة بما ذكره (فيرتز) ظهرت في العقود القليلة الماضية في بيئة التعليم الجامعى المصرى دفعت كثير من الجامعات المصرية إلى خصخصة إحدى أو بعض الخدمات غير التعليمية أو البحثية  التي تقدمها ، من بينها: ارتفاع تكاليف إدارة الخدمة بشكل جعل الجامعات غير قادرة على الاستمرار في الإنفاق على أمور مثل الأجور والحوافز وصيانة المباني والتجهيزات ، هذا بالإضافة إلى الحاجة إلى توفير عوائد للجامعات مقابل منح حق تشغيل الخدمةوتوفير التمويل اللازم لعمل التجديدات التي قد لا تستطيع القيام بها ، وتقديم الخدمة بشكل أكثر كفاءة وفعالية ، وذلك بتفادي الإجراءات البيروقراطية التي تستنزف الوقت والجهد والمال. وقد تكون هناك أسباب أخرى من بينها توفير الأموال اللازمة للنواحي البحثية والتعليمية دون اللجوء إلى رفع المصروفات الدراسية.(وللحديث بقية في المقال القادم)