رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملحمة وطنية تكشف أسرار وبطولات المخابرات العامة المصرية

من المؤكد أن الأعمال التى تقدم من ملفات المخابرات العامة هى أعمال صعبة لها متطلبات وضرورات حتى تنجح فى تقديم واقع أحداث مسكوت عنها، وحتى يمكنها أن تجذب المشاهد وتجعله يتابع حلقاتها بشغف.

ومن المؤكد أيضًا أن لها جاذبية خاصة لدى المشاهد، لأنه تبين أن لها نسبة مشاهدة عالية، فالمشاهد يحرص على متابعتها لأنها تتعلق بكشف أحداث خافية عنه حدثت بالفعل، وكشفت الأسرار التى وراءها الشخصيات التى تدور حولها، ومن المؤكد أيضًا قبل هذا وذاك أن المسلسلات التى تنتج من ملفات المخابرات العامة تبعث فينا شعورًا بالوطنية والاعتزاز بقيمة الوطن وإحساسًا بالفخر بقدرة هؤلاء الرجال والنساء الذين يخوضون عمليات خطيرة وقاسية، ويتعرضون لظروف صعبة وغامضة ومجهولة دفاعًا عن الوطن، وهم رجال ونساء يضحون بحياتهم طواعية ويقتحمون الصعب ويواجهون أشرس الأعداء من أجل حماية الوطن ولصالح استقراره وأمنه ومكانته.

وهى دراما تعتمد على التشويق والإثارة، كما أنها تغيب عن الشاشات لسنوات نظرًا لصعوبة تنفيذها ولأهمية المادة التى تقدمها، حيث يتم أخذها من ملفات حقيقية، ولضخامة متطلبات الإنتاج الضرورية لها. 

ولدينا نموذجان من المسلسلات المصرية التى تم إنتاجها من ملفات المخابرات العامة يتصدران- فى تقديرى- قائمة أفضل ما تم إنتاجه عن المخابرات المصرية، فلقد أحبهما المشاهدون وتعلقوا بهما، وكان لهما تأثير مباشر على وجدان المشاهدين لأنهما يصوران بطولات المخابرات المصرية.

صحيح أن لدينا عدة أعمال ناجحة فى أفلام ومسلسلات أنتجت من واقع ملفات المخابرات العامة المصرية، إلا أن هذين المسلسلين لهما مكانة خاصة ونجاح استثنائى فى تاريخ الدراما المصرية الوطنية، وأقصد بهما «رأفت الهجان» و«دموع فى عيون وقحة»، بحيث أصبح تقديم عمل حديث ناجح يصل إلى مستوى هذين العملين اللذين لهما مكانة خاصة فى ذاكرة المصريين يعتبر مغامرة صعبة وغير مضمونة النتائج.

ومن هنا، فإن تقديم عمل درامى جديد هذا العام وخلال شهر رمضان الكريم من ملفات المخابرات العامة، وأقصد به مسلسل «هجمة مرتدة» يعتبر- فى رأيى- مغامرة صعبة قد لا تلقى نفس النجاح الكبير والمدوى والمستمر للمسلسلين الناجحين «رأفت الهجان» و«دموع فى عيون وقحة»، فضلًا عن أن «هجمة مرتدة» مغامرة صعبة لكل فريق العمل بسبب الأحداث التى تتناولها حلقات المسلسل، التى تدور فى السنوات العشرين الماضية، ومن خلال أحداث عاصرناها وعشنا بعضها، ونعرف كثيرًا من تفاصيلها، بالإضافة إلى ضرورة الاهتمام بكل تفاصيل العمل، والحرص على أن يكون الإنتاج ضخمًا ومناسبًا لعمل ضخم يتناول أحداثًا قريبة، وصعوبة اختيار الممثلين والتصوير والموسيقى التصويرية، فضلًا عن توقيت الأحداث وملاءمة كل تفاصيل العمل للفترة الزمنية التى يقدمها المسلسل وغيرها من التفاصيل الكثيرة والمتنوعة التى تخدم العمل، لأنه إذا ما حدث أى نقص فيها، فإن ذلك سيهدد العمل كله بالفشل أو على أقل تقدير عدم النجاح، وفى ظل سباق رمضانى محموم.

إن التحدى الأكبر هنا هو أننا لم ننس أعمالًا ذات نجاح مدوٍ من ملفات المخابرات العامة المصرية، بحيث أصبحت أيقونات فى ذاكرة الدراما المصرية، وفى ذاكرة المشاهد، وهو يقبل عليها كلما تم عرضها فيشاهدها مرة أخرى، فنحن لا ننسى مسلسل «رأفت الهجان»، فهو محفور فى ذاكرتنا منذ عرضه للمرة الأولى وحتى الآن، وقد قام ببطولته النجم الراحل محمود عبدالعزيز الذى قدم دوره ببراعة فائقة، وبمشاركة: يسرا، ويوسف شعبان، ونبيل الحلفاوى، قصة وسيناريو وحوار الكاتب المبدع والقدير صالح مرسى، وهو شخصية تتميز بالوطنية وخفة الظل والقدرة على التواصل مع الآخرين، الذى تسنى لى معرفته أثناء رحلة مع بعض كتاب القصة والرواية إلى العراق فى مؤتمر ثقافى أدبى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، وهو من أقدر كتابنا الذين كتبوا قصصًا مستلهمة من ملفات المخابرات العامة المصرية، وأعتز بأننى عرفته قبل وفاته، لأنه- فى رأيى- أهم كاتب مصرى للدراما المأخوذة من ملفات المخابرات المصرية.

والمسلسل من إخراج المبدع الكبير يحيى العلمى، وتم عرضه ١٩٨٨، وهو يتناول تفاصيل رجل المخابرات المصرية رفعت الجمال الذى هو رأفت الهجان، والعمل عبارة عن ملحمة وطنية تدور حول علاقة رأفت الهجان بالمخابرات المصرية وتدريبه وكيفية خروجه من مصر، ثم نجاحه فى اختراق المجتمع الإسرائيلى، حيث استطاع تأسيس شركة سياحية إسرائيلية لمدة ١٨ سنة، مكنته من أن يمد المخابرات المصرية بأسرار كثيرة وثمينة عن المجتمع الإسرائيلى، وعن جهاز الموساد، وعن شخصيات إسرائيلية مؤثرة وكبيرة، كما أن هذا العمل «رأفت الهجان» يعتبر أيقونة وطنية، حيث قدم للوطن معلومات حول حرب ١٩٦٧، ثم عن خط بارليف، وقد أسهمت معلوماته فى إمداد المخابرات المصرية بمعلومات مهمة أسهمت فى الانتصار العظيم بحرب أكتوبر ٧٣، وهو- من وجهة نظرى- من أهم ما تم تقديمه من دراما وطنية فى تاريخ الدراما المصرية ككل، وليس الدراما الوطنية فقط. 

ولا ننسى أيضًا مسلسل «دموع فى عيون وقحة» للنجم عادل إمام، بمشاركة: معالى زايد، صلاح قابيل، مصطفى فهمى، ومشيرة إسماعيل، وكيف خدعت المخابرات المصرية جهاز الموساد الإسرائيلى، ونال المسلسل نجاحًا كبيرًا أيضًا، وتابعه الجمهور، كبارًا وصغارًا، بشغف وبحماس، وهو أول مسلسل يقوم بمناقشة قضايا الجاسوسية، ويقتحم عالم المخابرات، وهو من تأليف الكاتب صالح مرسى من واقع ملفات المخابرات المصرية، ومن إخراج يحيى العلمى، وتم عرضه ١٩٨٠، وشارك فيه ١٠٠ ممثل وممثلة، وقدم نموذجًا لبطل مصرى من المخابرات المصرية، هو جمعة الشوان، الذى أدى دوره ببراعة النجم عادل إمام، الذى استطاع أن يقوم بعملية استمرت ٦ سنوات كان يملى فيها معلومات المخابرات الإسرائيلية بعضها صحيح وبعضها زائف، كما قدم لوطنه معلومات مهمة وخطيرة، وتحول إلى بطل وقدوة للشباب والصغار لدى عرضه.

وهناك مسلسل آخر لن ننساه، وهو «الحفار»، مسلسل جاسوسية، ويعتبر ملحمة واقعية من سجلات المخابرات العامة المصرية حول عملية الحفار التى تمت فى أبيدجان عام ١٩٦٨، تأليف صالح مرسى وسيناريو وحوار بشير الديك، ومن إخراج وفيق وجدى، وقام ببطولته حسين فهمى ويوسف شعبان وهالة صدقى ومصطفى فهمى.

ومنذ مشاهدة الحلقات الأولى من «هجمة مرتدة»، يدرك المشاهد أنه أمام مسلسل من الصعب تقديمه لأنه من ملفات المخابرات العامة، وأنه ليس كأى مسلسل آخر لأنه يبدأ بتحدٍ كبير، حيث يجسد أحداثًا وقعت فى سنوات قريبة عاصرناها وعايشنا وقائعها خلال العشرين سنة الأخيرة، ويكشف عن خطط شيطانية وعمليات إرهابية وحرب إعلامية واستخدام قنوات فضائية وعملاء دوليين ومنظمات دولية معادية وتفاصيل أخرى كثيرة عرضها المسلسل، وتضمنها مخطط تقسيم المنطقة العربية والتخريب بداخل مصر. 

كما يتعرض «هجمة مرتدة» لأحداث فى عدة دول أخرى عربية، مثل: العراق، ومحاولات تخريبية ونشر التنظيم الإرهابى بأراضيه، ثم أحداث وقعت فى مصر فى ٢٠٠٨ ومخطط تقسيم الوطن، وهو مسلسل يتعرض لصعوبة العمل ومخاطره فى المخابرات العامة، حيث يتطلب رجالًا ونساءً من نوعية وكفاءة خاصة، بالإضافة إلى قدرات عالية ومهارات جسدية ونفسية استثنائية، ونرى رجالًا ونساءً يتحلون بروح الفداء والوطنية وحب الوطن وإدراك قيمته، وهو مسلسل يبث روح الوطنية وهو درامى تشويقى يتناول بحرفية عالية مشاهد الأكشن والإثارة، خاصة فى العراق، كما يلمس جوانب من حياة أسر رجال المخابرات والأعباء النفسية التى يتعرضون لها خلال عملهم، والأخطار التى تواجههم فى كل عملية يقومون بها.

ويعتبر المسلسل أول مسلسل من ملفات المخابرات المصرية حول السنوات الأخيرة، ومحاولات تقسيم المنطقة العربية، كما تعرض لحرب الإعلام والاستخدامات التكنولوجية الحديثة فى عالم الجاسوسية.. وشاركت فى العمل مجموعة كبيرة من الفنانين، الذين استطاعوا تجسيد شخصياتهم بمهارة، من خلال إنتاج ضخم يستحق الإشادة نظرًا لوجود فيروس كورونا، إلا أننا نرى مشاهد تم تصويرها داخل وخارج مصر فى صربيا والعراق، ويشارك فيه ممثلون من دول عربية إلى جانب الممثلين المصريين.

ويتصدر فريق العمل النجم أحمد عز بدور رجل المخابرات المصرى الشاب الذى يواجه أخطارًا متواصلة، ويوشك على الموت فى عدة حلقات كما يتعرض لأعباء نفسية شديدة وتدريب قاسٍ، ليتمكن من تأدية واجبه الوطنى، وهو يجسد شخصية سيف الذى يقوم بعدة عمليات سرية لكشف مخططات إرهابية لتقسيم المنطقة.

واستطاع أحمد عز أن يطور نفسه فى هذا المسلسل، وهو يبدو أكثر نضجًا فى أدائه، وقدم لنا بأسلوبه الخاص بطلًا مصريًا من لحم ودم يتعرض لتدريبات قاسية ليقوم بواجبه الوطنى، ويحاول تأدية مهامه بكفاءة وهو لا يقلد أحدًا ممن سبقوه فى مسلسلات الجاسوسية الناجحة.

ولفت نظرى أن أحمد عز قد قام بجهد بدنى وجسدى وتدريبات شاقة؛ ليبدو جسده رياضيًا مناسبًا للعمليات السرية التى يقوم بها، فـ«سيف» شاب مصرى لديه مشاعر جارفة فى داخله، فهو ابن عائلة مصرية عادية، متعلق بأسرته ويحب زميلة له فى المخابرات، لكنه يخفى مشاعره لضرورات العمل.

واستطاع أحمد عز أن تكون له مكانة خاصة بين نجوم جيله باختيارات مختلفة فى كل عمل درامى له، وهنا يقدم أفضل أدواره لأنه يقدم بطلًا مصريًا فى ملحمة وطنية واقعية مأخوذة من الواقع المعيش، فهو رجل مخابرات شاب يختار الصعب، ويقدم روحه فداءً لوطنه، مما يضعه فى مكانة خاصة جدًا به بعد هذا المسلسل الذى يحظى بنسبة مشاهدة عالية وبحماس من الجمهور، واستطاع عز أن يحظى بتعاطف مع شخصيته الوطنية التى يقدمها ببساطة ومهارة دون افتعال، وخاصة فى مواجهة قسوة رجل المخابرات المتقاعد الذى يقوم بتأهيله لعمليات سرية خطيرة، والذى يقوم بدوره ببراعة معتادة منه، الفنان أحمد فؤاد سليم.

أما هند صبرى فتقدم دورًا صعبًا لكنها تقدمه بنضج وبمهارة وتشارك فى تدريبات ذهنية وجسدية صعبة، وتنحى مشاعرها الشخصية من أجل أداء واجبها الوطنى، وهى تمثل بلا افتعال وببساطة تجعل لها أداء متميز عن كثيرات من بنات جيلها.

ويُحسب للمؤلف باهر دويدار أنه قدم لنا عملًا فنيًا مدروسًا، وأنه قام بالتدقيق والبحث المتأنى ليكشف لنا عن حقائق وأسرار سنوات صعبة عاصرناها، وكتبها من خلال سيناريو وحوار مكتوب بحرفية فنية عالية.. كما يشمل على تفاصيل عديدة وخيوط متفرقة تكشف عن مخططات إرهابية وأسرار عن نشر تنظيم القاعدة وميليشيات التطرف وعصابات دولية كانت تحيك خططًا مروعة للمنطقة العربية ولا تزال المخططات مستمرة.

أما المخرج أحمد علاء الديب فقد قدم لنا مسلسلًا مهمًا ومتميزًا بطريقة السينما فنجح فنيًا، وبرع فى تصوير مشاهد الأكشن والتشويق والإثارة بحرفية فنية عالية وظهر تفوقه فى مشاهد التفجيرات فى العراق وفى مشاهد المطاردات والأكشن.

كما أضاف هشام سليم قيمة مضافة إلى المسلسل بحضوره القوى كرجل مخابرات متمرس وكفء وبأدائه الجاد الصارم، وكذلك الممثلين الشباب نضال الشافعى وندى التى أرى أنها فى طريقها للنجومية والبطولة، بتقمصها شخصية امرأة جادة ومتفانية من المخابرات المصرية، تؤدى واجبها بكفاءة عالية.. كما أن ماجدة زكى وصلاح عبدالله قدما بمهارة الجو الأسرى والقلق والاهتمام الذى يُكنه الأب والأم للأبناء، والذى أضاف بُعدًا إنسانيًا واجتماعيًا للمسلسل.

هذا المسلسل يعتبر من وجهة نظرى من أهم الأعمال الدرامية فى شهر رمضان الكريم، ويُحسب له أنه تطرق إلى فترة زمنية حديثة وجمع خيوطًا كثيرة لأحداث متفرقه، لكنها كلها تدور فى المنطقة العربية، وتتناول كشف تفاصيل خطط شيطانية تحاك لمصر ولتقسيم المنطقة، وهو ملحمة وطنية تبث الروح الوطنية بين الكبار والصغار، وتقدم لنا بطولات نفخر بها ليس فقط لرجال المخابرات المصرية، وإنما أيضا لبطولات نساء المخابرات العامة المصرية.

وينبغى أن يكون مقدمة لسلسلة مسلسلات درامية تخرج لنا بطولات رجال ونساء المخابرات المصرية إلى النور، لتمتعنا ولتزيدنا فخرًا بأبطال مصريين يعيشون بيننا ويقدمون أرواحهم فداءً للوطن الحبيب، وأقترح عرض المسلسل بعد رمضان دون زحمة الإعلانات، لنتمكن من متابعته بشكل أفضل.