رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الروائى الكبير محمد جبريل: رحلة الإسراء والمعراج أول تعرفى على صميم العقيدة

الروائى الكبير محمد
الروائى الكبير محمد جبريل

تجربة روحانية فارقة ومختلفة مع الله عاشها الروائى الكبير محمد جبريل بداية من طفولته وصباه إلى شبابه وتقدمه فى العمر.. وكما يعيش الطفل بساطة حياته الأولى، رأى المبدع الكبير الله فى الأشياء البسيطة حوله وفى أدق التفاصيل فى حياته، ورآه فى المشاعر الإنسانية الخالصة وتجليات البشر ومشاهد اصطفاف المصلين وأصوات الأذان وارتفاعات المآذن وغيرها.

فى حواره الخاص والمختلف مع «الدستور»، يكشف محمد جبريل الغطاء عن أسرار عجيبة ومثيرة، تحيط برحلته مع الله، التى بدأت بالقرب من أقطاب الصوفية فى الإسكندرية، حيث التجليات الروحانية والمريدين والهائمين فى حب الخالق، ليتعرف على الخالق من أبواب المحبة والهيام الروحى، وتكونت فى عقله تصورات خاصة عن الصلاة والعبادات وغيرها من الأشياء التى يتقرب بها العبد إلى ربه.

ويحكى «جبريل» عن خصوصياته فى «الفضفضة» مع الله والحوار المحبب معه، وكيف يلتقيه فى صلاته ويوجه قلبه إليه فى خشوع واستغراق كامل يصل إلى حد التوحد، وكيف شكلت المظاهر الصوفية فى عتبات الأولياء حالة خاصة فى رؤيته للجوهر الإلهى والحكمة الربانية من الحياة، ويروى الكثير من المواقف الفارقة فى حياته، والتى شكلت وعيه ووجدانه، وغيرها.

■ بداية.. هل تناجى الله؟ وفى أى وقت؟ وبأى طريقة؟

- وأنا صغير، كنت إذا حلفت كذبًا همست شفتاى فى خوف: أستغفر الله. كنت أخاف الله الذى حلفت به كذبًا، وكنت أستغفره. أما من هو هذا الإله فلم أكن أعرفه. وحين أفزع، كنت أصرخ بلا وعى بأبى أو أمى، وقد أهتف مستغيثًا: يا رب. كنت أستغيث بقوة لا مادية خفية مجهولة لتنقذنى مما أعانيه. هذه القوة هى الله، وهى قوة كان عقلى القاصر يعجز عن إدراكها. من هنا، فإن اليقين الدينى كان تكوينًا مهمًا فى داخلى منذ زمن بعيد لا أذكره، وطرف خيطه متشابك مع الخيوط الأخرى.

■ البعض يبحث عن الله عند الأولياء.. أين تتلمس وجود الخالق؟ 

- ظنى أن صلاة العيد فى إحدى السنوات شهدت بداية تعرفى إلى معنى الدين، حيث ترامت تكبيرات المصلين- عبر النافذة المطلة على جامع سيدى على تمراز- قبل شروق الشمس: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا. كنت أطل على الميدان الواسع، ورأيت كيف يتناثر فيه المصلون، وكيف يدل فرش الحصير إلى نهايات الميدان والشوارع الجانبية على أعداد المصلين الذين يقيمون الصلاة فى موعدها.

مثلت لى صلاة العيد، ثم صلاة الجمعة، وامتلاء سعة ميدان «الخمس فوانيس»، بداية التعرف إلى الدين. تأملت، وسألت، وتلقيت أجوبة، تلاصقت الجزئيات والتفصيلات، لتشكل- فى النهاية- مشهدًا بانوراميًا يعانى الشحوب، ثم لحقته تكوينات جديدة، فرضها التعرف إلى معنى الدين. مشاهد كثيرة، مترابطة، ومتداخلة، لا أذكر أيها كان أسبق فى تعرفى إلى معنى اليقين الدينى: تلاقى أصوات المؤذنين فى مساجد بحرى، أهازيج السحر فى «أبوالعباس»، حوارات أبى وأمى وزائرى بيتنا عن الحياة الآخرة والحساب والجنة والنار، حرص أبى على أن يترك كتبه وأوراقه، ويعطى إنصاته لتلاوة الشيخ محمد رفعت، من الثامنة إلى الثامنة والنصف مساء كل يوم إثنين، صلاة الجمعة فى ميدان «الخمس فوانيس» أسفل بيتنا، صحوى كل صباح على الحديث الدينى للشيخ محمود شلتوت، ألتقط القليل مما يتناوله من قضايا الدين، وأنا أعد نفسى للتوجه إلى المدرسة، خطب الشيخ عبدالحفيظ، إمام المسجد، ينعى على الملك والحكومة ما لا أتبينه جيدًا، وإن أدركت- من ملاحظات أبى- أنه يمتلك الجرأة التى تدفعه إلى المصارحة، حفظ القرآن فى كتاب الشيخ أحمد أول شارع فرنسا، الجلوات المتعددة بتعدد موالد الأولياء، وسوق العيد، والجنازات المتجهة إلى جامع الشيخ إبراهيم آخر شارع الميدان، ومنه إلى مقابر العامود، ترافقها آيات قرآنية ودعوات.

قالت أمى بعد أن استقر حزنها، إن أخى الأصغر صعد إلى السماء، اعتدت فى الأيام التالية- حتى نسيت- أن أنظر إلى السماء، أحاول تبين الموضع الذى صعد إليه أخى.

شغلتنى الأسئلة التى أعرف أنها شغلت كل إنسان، فى مرحلة ما من عمره: لماذا نموت؟ إذا كان الله قد خلقنا، فمن الذى خلق الله؟ وما معنى الجنة والنار والحساب والصراط والبعث والنشر والجن والملائكة والشفاعة العظمى؟

■ هناك إذن أشياء عرفت الله من خلالها؟

- نعم، كانت رحلة الإسراء والمعراج أول تعرفى إلى صميم العقيدة الإسلامية بصورة صحيحة. مطالعتى أعداد مجلة «الإسلام» التى كان يقتنيها أبى، نقلتنى إلى أجواء من المعرفة الدينية، وإن أضافت الإسراء والمعراج إلى خيالى بما لم أستطع مغالبته. ثمة تفصيلات صغيرة، ماثلة فى وعيى حتى اليوم، أستعيدها، أتذكرها، فى المناسبات الدينية، وربما دون مناسبة، مجرد أن يشرد الذهن، يمضى إلى بحرى بتكويناته المختلفة: امتلاء ميدان «الخمس فوانيس» بالآلاف من المصلين، خطبة الجمعة، ودرس المغرب، وأهازيج السحر، وتواشيح رمضان، سوق العيد، الموالد، الجلوات، حلقات الذكر، التوضؤ فى ميضة «البوصيرى»، المذاكرة فى صحن «أبوالعباس»، كل هذه المفردات التى تشكل مشهدًا واضحًا، أو يعانى الشحوب.

عشرات الأصوات ترفع الأذان من جوامع بحرى ومساجده وزواياه، ربما يتطوع من يجعل الرصيف مصلى، ويرفع الأذان، يصطف للصلاة عدد من التجار والحرفيين والباعة وعابرى السبيل، يتناهى رفع الأذان من مئذنة «أبى العباس» العالية «تقول رواية إن العارف بالله طار إلى قمتها، كى يحذر أحد الخطاة من أنه لن يفلت من العقاب!» يغطى الصوت على أصوات المؤذنين فى المساجد الأخرى.

لا أعرف طول مئذنة «أبوالعباس»، ولم أحاول السؤال، لكنها- بالتأكيد- هى الأعلى فى الفضاء المحيط بها. صوت رفع الأذان يصل إلى أفق البحر من كل الجوانب، متخللًا مئات المساجد والمنشآت والبيوت. مع ذلك، كنت أحرص على الوقوف فى النافذة الخلفية، أتابع المؤذن وهو يصعد السلم اللولبى فى مئذنة سيدى على تمراز إلى نهايته، يقف فى الجزء العلوى من المئذنة، يرفع صوته بالأذان، يلفنى تمازج من الانفعالات المتباينة، وإن اتسمت فى عمومها بروحية عالية.

لعل اتجاه المؤذن بكلمات الأذان إلى الفضاء العريض، إلى السماء، كان هو الدافع لأن أقذف برسالة- بالكيفية نفسها- أشرح فيها بعض متاعب صباى، توهمت أن السماء ستتلقف رسالتى المستغيثة، مثلما تتلقف كلمات الأذان.

لم يعد المؤذن- فيما بعد- يصعد السلالم الحلزونية إلى أعلى المئذنة. فقدت المئذنة وظيفتها، وإن ظلت جزءًا من عمارة المسجد، لا مسجد دون مئذنة أو أكثر، بصرف النظر عما إذا كانت قد فقدت وظيفتها، استبدلت الميكروفونات بصوت المؤذن الحقيقى، آلة تضخم الصوت، وتعليه، ليصل إلى أبعد مدى. يفقد صوت المؤذن ما قد يتسم به من طلاوة وحلاوة.

حتى الآن، فإن صوت الأذان- عند سماعى له فى أى موضع- ينقلنى إلى ذلك المشهد الذى كنت حريصًا على متابعته.

أصارحك أن معتقدى الدينى لم يكن شاغلًا لى بصورة حقيقية. أعرف الصلاة والصوم والذكر والأذان وأهازيج السحر والموالد وعظات إمام أبى العباس أو على تمراز والجلوات وتلاوة القرآن، لكن المعنى الحقيقى يغيب عن مداركى. شاركت الأولاد والبنات ألعابهم، دون أن أعرف معنى الدين فى حياتهم- أكاد أقول فى حياتى- ولا هوياتهم الدينية، نلعب فى الشارع الخلفى المجاور لجامع على تمراز، نجول فى سوق العيد، نصعد إلى صحن أبى العباس، نتأمل طواف الناس وأدعيتهم حول مقام السلطان، نحاكى المصلين فى أداء القيام والركوع والسجود، ندس أجسادنا الصغيرة فى الموالد والجلوات وحلقات الذكر، وفى نصف الدائرة المحيطة بدكة المبلغ، نحاول فهم دروس إمام أبى العباس بين صلاتى المغرب والعشاء. لم يكن ما وراء العقيدة الدينية يشغلنى. أظن أنه لم يكن يشغل أصدقاء طفولتى باختلاف العقيدة.

■ كتبت كثيرًا فى الصوفية.. كيف تراها؟

- كانت صورة الصوفية فى ذهنى شاحبة، لا أقبلها، ولا أرفضها. انعكاس أحاديث أبى وأصدقائه عن الصوفية الذين يتوزعون فى بحرى، فى الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة والميادين والشوارع والسرادقات والخيام وحلقات الدرس والأذكار والجلوات ما بين المرسى أبوالعباس وجامع الشيخ فى شارع الميدان.

أولى قراءاتى فى الصوفية كتاب لآدم متز، أذهلنى بيتان من الشعر لا أذكرهما الآن، وإن قال الشاعر إنه التقى بالذات الإلهية فى إحدى الأسواق، عرض الشاعر صداقته، فجاء الجواب بالرفض. قرأت البيتين بوعى صبى لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، أحدثا فى داخلى ما يشبه الزلزال، كلمت أبى، فاكتفى بالقول: قصائد الصوفية تحمل معانى تختلف عن المعانى التى قد نفهمها، استعدت البيتين- فيما بعد- حين قرأت عن رابعة العدوية والحلاج وابن الفارض وغيرهم من أقطاب النساك والمتصوفة، تغير المعنى والفهم والممارسات. قرأت أن ضرب الأجساد بالسلاسل، واختراق الوجنات من ناحية لأخرى، والجرى على الجسد العارى بالسيوف والخناجر والمطاوى، وأذية النفس عمومًا، هو امتداد لعصور التشيع الفاطمية، حين وسمت مظاهر التشيع فى طقوس الدين حياة المصريين، قبل أن يعيد صلاح الدين مذاهب السنة، ما يجرى فى الجلوات هو بقايا الشعائر التى كان يمارسها المصريون أثناء الحكم الفاطمى.

من المستحيل تصور أن يكون العهد الأيوبى قد قضى على مظاهر دينية استمرت بضعة عقود، ولعل الأمر يسهل فهمه فى بقايا الشعائر الدينية التى اختلطت فى حياة المصريين، منذ فرضت عبادة الإلهة إيزيس نفسها، ليس على المصريين وحدهم، وإنما على غزاتها من الهيلينيين.

خلاصة التصوف الإسلامى: نسك فى الزهد، وفى المحبة، وفى المعرفة، وفى الولاية. هذه هى الدعائم الأربع لصحيح التصوف. التراث الصوفى خلفه لنا الأقطاب العظام: أبوالحسن الشاذلى، والحسن البصرى، وأبوالعباس المرسى، والسيد البدوى، وإبراهيم الدسوقى، وعبدالرحيم القنائى، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومى، والحلاج، والقشيرى، والجنيد، والطوسى، والنفرى، والجيلانى، وغيرهم، ويشير على مبارك إلى أن أغلب الطرق منسوب لأربعة من كبار الأولياء: عبدالقادر الجيلانى، وأحمد الرفاعى، وأحمد البدوى، وإبراهيم الدسوقى «ظنى أن الشافعى هو القطب الرابع فى محكمة الديوان، وليس الجيلانى».

والحق أنه من الصعب إنكار الدور المهم للصوفية فى التاريخ الإسلامى، هو دور لم يقتصر على مجرد الطرق بشعاراتها وطقوسها وأعلامها، وحظ أقطابها من البركات والمكاشفات، بل هو قد جاوز هذا الدور من خلال إسهامات دينية وثقافية وفنية، فى الحضارة الإنسانية عامة، والحضارة الإسلامية خاصة.

■ هل كتبت خطابًا إلى الله قبل ذلك؟

- علمنى صديقى صلاح شاهين طريقة الصلاة بما لم أكن أؤديه بها، وما يجب أن أجهر به، وما يجب أن أنطقه سرًا. لم يكن صلاح شاهين «تعرفت إليه فى صحن أبوالعباس» يجد فى الصلاة مجرد القيام والتكبير والركوع والسجود. من المهم أن يستغرق المصلى فى معنى الصلاة، فى قدسيتها وجلالها وقرب المرء من ربه، وخضوعه له. وتعلمت من صلاح شاهين أن أكتفى بالتكبير قبل كل صلاة. من يتهيأ للصلاة، يستقبل القبلة، فهو يصرف نفسه عن كل شىء، يتجه إلى الله وحده. حين يعلو صوت- أو يهمس- بالتكبير، فإن قلبه يخلو- بالضرورة- من كل شىء. الله أكبر، وهو وحده يعلم بما فى الضمائر، وما تخفى الصدور.

لسنا إذن فى حاجة إلى إعلان ما نستعد لأدائه من عبادات، وما ننتويه، الأعمال كما يقول بالنيات، إعلان النية ليس شرطًا، كالقول: نويت، فالنية موضعها القلب.

تعلمت ألا أرفع نظرى إلى السماء، كما اعتاد الكثيرون فى أداء الصلاة. ذكر الحديث الشريف «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فى صلاتهم» فاشتد قوله فى ذلك حتى قال «لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم»، قرأت- فيما بعد- فى «فتح البارى» للعسقلانى أن «أو لتخطفن أبصارهم» تحمل معنى الوعيد، فالفعل إذن حرام، وزاد ابن حزم فقال: يُبْطل الصلاة. الله موجود فى كل مكان، فى كل الأكوان. إذا أردنا أن نبحث عن الله، فلنتجه إلى قلوبنا، فلنبحث فى قلوبنا.

لم أعد- بنصيحة صلاح شاهين- أقصر صلاتى على موضع بالذات فى الجامع، نهى الرسول أن يوطن الرجل المكان فى المسجد كما يوطن البعير. وتعلمت ألاّ أسبق الإمام فى الركوع والسجود، أظل فى وقفتى حتى يعلو صوت الإمام بالقول: الله أكبر. ولم أعد أضيف كلمة «الشكر» للقول: ربنا ولك الحمد- هذا ما كان يقوله الرسول- وصرت أتنبه فى أثناء الصلاة، فلا أكثر من الحركة، ولا أتلفت، ولا أعبث بملابسى.

حقيقة العلاقة بين الدين والعلم تأكيد للمعنى بأن قتل «عرفة للجبلاوى» فى رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ إنما هو قتل لليقين الدينى، وليس قتل الدين فى ذاته، ليس قتل الله. «الجبلاوى» ليس الله، لكنه التعبير عن اليقين الدينى فى نفوسنا. وعمومًا، فإن الدين يحقق الخلاص، وهو ما لا يتحقق بالعلم، وفى قول آخر «العلم قد يقلل من وظائف الدين الإدراكية، لكنه لا يستطيع الحيلولة دون استمرار الأفراد فى التحرك نحو تلك الوظائف بدافع من يقينهم الدينى».

كانت أصداء المولد تترامى من الميدان الواسع إلى حيث نجلس- صلاح شاهين وأنا- لصق بجدار أبى العباس، الدفوف والطبول والأناشيد والابتهالات. انداح من الباب الرئيس عشرات من المنتسبين إلى الطرق الصوفية، ترافقهم الأدعية والزغاريد والأشاير والأعلام. شكلوا دائرة واسعة فى قلب الصحن، اختلطت رقصاتهم وأغنياتهم- تعالت الأغنيات!- بالأضواء المنبعثة من النوافذ الزجاجية الملونة، وضوء النجفة الهائلة المتدلية من السقف.

■ ماذا عن لحظات اليقين فى حياتك؟

- لحظات اليقين فى حياتى، جزر متقاربة، أو متصلة. فى ذاكرتى رفع الأذان من على تمراز، وتسابيح أبوالعباس، وخطب الشيخ عبدالحفيظ، ودروس المغرب، ومكتبة أبى، ومفردات أخرى كثيرة تشكل مشهدًا كليًا، يصعب تبين فسيفسائه ومنمنماته، وإن ظلت النفس الأمارة بالسوء هى العدو الأكبر، النفس الأمارة بالسوء هى التى أوقعت الشيطان فى إبائه من السجود بكبرها وعجبها.

ما كان يؤلمنى، يحاصرنى بالارتباك والحيرة، أنى لم أكن أجد من أصارحه بما أعانيه، بالفعل الذى ارتكبته، وأنى أخطأت، أو ارتكبت كبيرة، فأطلب النصيحة. كنت فى حاجة إلى الحكى، الفضفضة، البوح بما يشغلنى إلى أذن تُحسن الإنصات، وعقل يجيد التفكير، ونفس تبذل النصيحة عن طيب خاطر.

كانت أمى تعاقبنا لأقل سبب، ربما حاسبتنا على ضمائرنا. كانت تصرفاتها القاسية تصدر عن نفس محبة، تذكرنى- مع الفارق طبعًا- بالقطة التى تأكل أبناءها، لفرط خوفها عليهم.

الكاريزما فى شخصية أبى -رغم طيبته البالغة- حالت دون أن أصارحه بما يصعب روايته. أما شقيقى الأكبر فلم يكن يضعنى فى دائرة أصدقائه، ولا حتى معارفه، إنما أنا شقيقه الأصغر الذى يجب أن ينصت ولا يتكلم!