رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا سيفعل العالم مع إثيوبيا؟ «1»




الحديث عن تفكك وشيك للدولة الإثيوبية الفيدرالية المتعارف عليها أصبح يتجاوز التحذير النظرى الذى انطلق فى الفترة الأخيرة من العديد من المتابعين ومن إثيوبيى الداخل، ليصبح واقعًا تؤكده الأحداث، حيث يدفع الأخير منها بسرعة تجاه هذا المنحدر، مما نقل المهتمين والمعنيين إلى مرحلة إعداد السيناريوهات لما بعد السقوط، فى محاولة لتفادى مغبة التشظى الذى بدأت أماراته وشواهده تلوح على الأرض.
وأجمع من يهمهم أمر إثيوبيا، حتى أعداؤها أو منافسوها، أن هذا مآل خطر يحمل انكشافًا استراتيجيًا كبيرًا للقرن الإفريقى الكبير بالمسمى الدولى، والذى يضم فيه المشرق الإفريقى الذى يبدأ من السودان وجنوبه وصولًا إلى سواحل البحر الأحمر والمحيط فيما تضم هذه المساحة من دول، حيث تتشابك هذه الدول مع إثيوبيا فى كثير من مفردات الأمن والاتزان الاستراتيجى الذى صار مهددًا أكثر من أى وقت مضى.
ملامح التفكك الماثلة منذ سنوات التى جاءت التطورات الراهنة بالداخل الإثيوبى وعلى خطوط تماسها الحدودية لتعمقها وتجعل هذا الهاجس له اليوم ما يبرره- تبدأ من مساحات الاقتتال الداخلى التى تدور ما بين الأقاليم والعرقيات المختلفة، وحاولت إدارة الحكم الفيدرالى فى أديس أبابا تصوير صراعها مع «التيجراى» عرقيًا وإقليمًا، باعتباره شكلًا من أشكال فرض السيطرة على الأمن المنفلت.
لكن تداعى الأحداث وانكشافها أخذا المشهد برمته إلى أبعاد أخرى، لم يقف عند حد الانتهاك الإنسانى الفادح لأبناء العرقية، بل وصل لحد فتح الباب أمام قوات أجنبية «الجيش الإريترى»، كى تقوض كل مقومات العيش للإقليم وتحطم بنية الحكم المحلى برمته. واليوم هذا الإقليم وما جرى فيه تصدر يوميًا بحقه تقارير مساءلة حقوقية وإنسانية، تشير بأصابع الاتهام بوضوح لمرتكبى «جرائم الحرب» بحق المدنيين وتطالبهم بالخروج، فى حين يجرى إعداد ملفات للمحاسبة الدولية بدت أنها ستخرج للنور فى فترة وجيزة قادمة. على جانب آخر يخضع إقليم «أوروميا» الكبير الذى ينتمى رئيس الوزراء الحالى «أبى أحمد» لعرقيته، إلى حكم عسكرى غير معلن منذ منتصف عام ٢٠١٨، فى حين اندلعت منذ هذا التاريخ حرب خفية عن أعين العالم فى المناطق النائية للإقليم، تقوم فيها قوات الأمن بترهيب الأسر على نطاق واسع، عبر سجن واغتصاب الأمهات والبنات. كما يتعرض الآباء والأبناء للضرب والقتل، كما تتعرض المحاصيل والمنازل إلى الحرق والهدم متى شاءت هذه القوات القمعية، وأدى ذلك الانتهاك الواسع إلى تشكيل مقاومة محلية لهذا القمع المتصاعد، وتنامت الرغبة فى التحرر من هذا الكابوس، ليقوم شباب الإقليم بتكوين جيش تحرير أورومو «OLA» الذى شهد عمليات انضمام بشكل جماعى خلال العامين الأخيرين على الأقل. وعلى هامش ذلك جرت عمليات اعتقال واسعة للقادة السياسيين للإقليم، لكل من تحوم حوله شبهات إدارة أو دعم «OLA»، وهو ما يجعل التوصيف الأكثر دقة أن «أوروميا» اليوم صارت غير قابلة للحكم.
على ذات النسق تشهد المنطقة الجنوبية حالة تغيير وسيولة غير محدودة، فقد تعرضت «سيداما» و«ولايتا» اللتان طالبتا بـ«الحكم الذاتى» وفق قواعد الدستور الفيدرالى، إلى مقابلة ذلك من أديس أبابا بالقوة الغاشمة التى واجهت مظاهرت سلمية شهدتها الساحات العامة، وأعقبها خلع قادتهم المحليين على شاكلة ما جرى مع «التيجراى» وقيادات جبهة التحرير الحاكمة.
إقليم «الأمهرة» ليس بأفضل حال مما سبق، بل ربما هو المكون الرئيسى الذى يشارك حكومة «أبى أحمد» فى صناعة هذا المشهد المعقد، فبداية الإقليم على الأرض فى حالة حرب مع جميع جيرانه، فى الداخل مع إقليم «أوروميا» تحت مزاعم مختلطة ومرتبكة تطال قيادات الإقليم وتبرز إشكاليات الحيازة حول المدن والأراضى، ما يجعل إمكانية الحديث عن العيش المشترك بعيدًا، بل ويتراجع اليوم أكثر، على خلفية ما جرى خلال الشهور الماضية، حيث أعطت لـ«الأمهرة» سطوة إضافية أمام أعدائها. فى إقليمى «التيجراى» و«بنى شنقول قموز» يتجاوز الأمر بالنسبة لـ«الأمهرة» حد الخلاف أو النزاعات، فهناك تورط كبير وواسع المدى بالوقائع ارتكبه الأمهريون بحق هذين الإقليمين، يوصف اليوم فى عشرات من التقارير الدولية باعتباره «جرائم حرب» قد تدفع ثمنها الدولة الإثيوبية بكاملها.
فالأمهرة شكلوا القوة الضاربة لأديس أبابا فى حربها ضد «التيجراى»، وأمام هذا التكليف والإسناد الذى قدمته الأمهرة بحماس تجاوز المهمة، قامت سريعًا بتحصيل الثمن بنفسها عبر ضم منطقة «غرب التيجراى» إلى أراضيها بالقوة المسلحة، وتعد اليوم من غنائم الحرب التى تمارس فيها أكبر عملية تطهير عرقى لإحلال أبناء عرقية «الأمهرة» محل التيجرانيين أصحاب الأرض الأصليين.
فى إقليم «بنى شنقول» الإشكالية تتمثل على ذات النحو تقريبًا من الترويع المسلح والتهام الأراضى، وربما الإقليم له خصوصية انفراد الأمهرة بارتكاب جرائم مزدوجة بحق اللاجئين والفارين من حرب التيجراى، لتجرى مذابح واسعة بحقهم على أراضى «بنى شنقول», هذا يمثل إشارة عامة لحجم التفكك ومهددات الانزلاق لما هو أسوأ، لعل الأبرز فيه أنه يؤسس لمراحل تالية ممتدة من العداء بين شعوب الأقاليم والعرقيات الإثيوبية المتنوعة، خاصة مع تفشى جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسرى عن الأراضى والممتلكات، وهى من الجرائم- عبر الموروث الإفريقى التى يستتبعها فصول من الثأر المتبادل التى قد تفتح النزاعات المسلحة لعقود.
وبالنظر لإيمان رئيس الوزراء وزمرته الحاكمة بأن الفيدرالية هى أم الشرور كما يصفها، ويسعى منذ توليه الحكم لتقويضها عبر انقلاب بدأ يتكشف حجم خشونته، يضفى على الصورة العامة ومستقبل معادلة الأمن الإقليمى قتامة حادة- فالمشهد له ارتباطاته خارج نطاق الحدود الإثيوبية وهو ما يمكن رصده بوضوح فى حالتى السودان وإريتريا، الأولى طالتها شظايا الخلل الأمنى والاقتتال المسلح بضغط كبير لأعداد اللاجئين الإثيوبيين على أراضيها، قبل الدخول فى فصل الانزلاق الإثيوبى التالى لمعارك الحدود مع الخرطوم، التى فى طياتها يقبع المزيد من عوامل التهديد والضغط على الاستقرار الهش بالمنطقة.
هذا عن السودان، أما إريتريا وما تأثرت وشاركت به فيما يجرى وهل سيقف الأمر عند حد هاتين الدولتين، أم أن التهديد بتفكك حقيقى يطال القرن الإفريقى بكامله، فهو أمر حساباته صارت خارج سيطرة المركز الإثيوبى بعد ٤ أشهر فقط من بداية الدخول فى هذا النفق المظلم المحفوف بالمخاطر الجدية.. هذا ما سنتناوله الأسبوع المقبل بمشيئة الله.