رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا كينيا.. ليلة فى ضيافة قبيلة «الماساى» وعزومة على «دماء طازجة»

 قبيلة الماساى
قبيلة الماساى


يسهل علىَّ اليوم، وبعد ثلاث سنوات من التجول فى كينيا، تخمين إلى أى قبيلة تنتمى، من شكل أنفك أو تدويرة وجهك، وأحيانا من عرض جبينك أو طولك وشكل أذنك.. لم يكن الأمر بتلك السهولة فى البداية، قدمت من بلد بلا قبائل، أو للدقة القبلية المصرية تبعد عنى كثيرًا، فأنا ابنة القاهرة، حيث الأصل القبلى لا يمكن ملاحظته، وحطت طائرتى فى بلد القبلية فيها هى كل شىء.. كنت أرى قبل التجربة أن القبلية سبب من أسباب فقرنا كأفارقة، وبت أوقن الآن أنها سر ثرائنا الثقافى.. كنت مخطئة والخطأ هذا كلفنى الكثير.
يعتبر ديسمبر شهر الأعياد بالنسبة لسكان كينيا، يبتهجون ويبثون الموسيقى فى المقاهى والمواصلات ومحطات الراديو، ويغنى الأطفال، ويقيم زعماء القبائل الاحتفالات ويعدون الولائم، ولم أتعجب حينما تلقيت دعوة من زعيم إحدى القبائل لمشاركتهم أفراحهم، فأنا مصرية أقيم فى هذه البلاد الجميلة منذ ٣ سنوات، وكأى مصرى استطعت أن أصنع جسور محبة معهم.
كنت أتعجب، كيف يستحضر الكينيون السعادة، وسط الموت الذى نراه حاضرًا كل يوم، ليس كزائر عادى، بل كشريك فى المشهد؟
الدعوة التى تلقيتها أرسلها زعيم عشيرة تنتمى لقبيلة «الماساى»، الأشهر فى إفريقيا، وأحب أن أوضح أن شيخ القبيلة الآن إنسان عصرى، لا يستر عورته بجلد البقر المجفف كما تُظهر الأفلام، بل يرتدى الجينز والسويت بانتس والتيشيرت كأى مواطن فى باريس.
الأزياء المحلية لها أوقات محددة هنا، يرتديها كبار السن والشباب خلال الاحتفالات فقط.
لم ترسل لى دعوة مزخرفة داخل ظرف مغلق بالشمع الأحمر كبروتوكولات قصر باكنجهام، بل حملها فتى نحيل حليق الشعر، يرتدى حذاء صنع من إطارات السيارات القديمة بحرفية بالغة، جاء جريًا إلى مسكنى، الواقع أسفل تل «نجونج»، الذى يبعد حوالى ساعة عن العاصمة الكينية «نيروبى»، حيث تقيم القبيلة وترعى حيواناتها.
أخبرنى الطفل، بإنجليزية بدائية، بأن شيخ القبيلة اختارنى لأكون ضيف الشرف فى هذا الاحتفال، وهذا يعنى أننى سأشاركهم طعامهم وطقوسهم، وهم يعرفوننى باسم «القادمة بالطائرة»، منذ أن وطأت قدماى هذه الأرض.
«الماساى»، كأى قبيلة، تعظم من قيمة الرجل، وقد تمارس عادات لا تصب فى مصلحة المرأة، مثل الحرمان من التعليم أو الختان، لكنهم «أهل أصول»، مثل الصعايدة فى مصر، يعرفون كيف يحتفون بضيفهم، وفى المقابل كان علىّ أن أقابل هذا التقدير الكبير بأن أحسن اختيار كلماتى وتحركاتى وحتى تصفيفة شعرى.
حضر معى ثلاثة ضيوف من قبيلة الـ«لوو» للاحتفال الصباحى، وهى قبيلة بعيدة جدًا عن «الماساى» فى كل شىء، فأهل الـ«لوو» يمتهنون الصيد على بحيرة فيكتوريا، منبع النيل، وجاءوا من السودان عبر أوغندا، أما أهل «ماساى» فهم رعاة أغنام.
ولأننى ضيفة الشرف، كان لا بد لى من مشاهدة البقرة التى ستذبح، لتكون وليمتنا فى هذا اليوم، كنت المرأة الوحيدة فى المشهد، إذ انشغل باقى النساء فى طهى «الأوجالى» فوق الحطب الذى جمعه الرجال.
أكثر ما كان يقلقنى، هو أننى لا أعرف لغة أهل القبيلة، فرغم أننى أتعلم اللغة السواحلية، اللغة الرسمية لكينيا، إلا أن أصحاب البيت لا يتواصلون بها، لذا جلست فى مكانى واكتفيت بمشاهدة من يرقصون، ورغم سطوع الشمس، إلا أن أهل القبيلة حرصوا على إشعال النار كعادتهم.
مساءً، كنا فوق التل، البرد كان قاسيًا جدًا على فتاة جاءت من مصر الدافئة، قلبًا وجوًا، وبعد وضع الطعام أمامى، منحنى زعيم القبيلة كوبًا معدنيًا يحتوى على سائل دافئ، أحمر اللون، منحنى الرجل شرف الرشفة الأولى، ليشرب بعدى كل رجال القبيلة.. لا تفكر مرتين خلال هذه المواقف، عليك أن تقبل أى طعام أو شراب يقدم لك، قبل أن يعتبر مضيفك أنك تهينه.
قربت الكوب من فمى، فعرفت أن زعيم القبيلة قدم لى دماء البقرة لأشربها، أخشى أن ترتعش يدى ويسقط الكوب، كنت أفكر فى مخرج من هذا الموقف المحرج، فرفضت بأدب، بإشارة من يدى، لكن التوتر تسبب فى سقوط الكوب.. استاء الجميع منى، سألت بصوت خافت: «هل يتحدث أحد الإنجليزية؟»، لكن لا رد، فطلبت الذهاب لقضاء حاجتى لأستطيع التفكير.
كنت فى موقف لا أحسد عليه، فزعيم هذه القبيلة تبرع- شفاهة- لتوه، لمؤسستى الخيرية، بأرض لبناء مدرسة للقبيلة.. خسارتى فادحة ولا أتحدث لغتهم حتى أخبرهم بأن عقيدتى تمنعنى من شرب الدماء.
قضاء الحاجة هناك لا يعنى الذهاب لحمام، بل البحث عن شجرة بعيدة والاختباء وراءها وحفر حفرة ثم ردمها.. وقت كافٍ لأستعين بصديق وأسأله كيف أوضح الأمر لأصحاب الأرض قبل أن يشتد غضبهم.
ابتعدت قليلًا، ونظرت إلى هاتفى، فرأيت أنه يعانى لالتقاط الإشارة، هاتفت صديقًا يدعى «جوزيف»، وشرحت له الموقف، وطلبت منه ترجمة جملة معينة للغة السواحلية، فمن المؤكد أنهم يفهمونها، رغم أنهم لا يتحدثون بها، وكانت الجملة: «Mimi ni Muislamu na kunywa damu ni marufuku»، وتعنى أنا مسلمة وشرب الدماء محرم.
بمجرد إلقاء الجملة عليهم، ابتسموا مجددًا وتقبلوا رفضى لما يعتبرونه كرمًا، وعرف شيخ القبيلة أن بإمكانى التحدث باللغة السواحلية بصعوبة، فطلب من الجميع التحدث بها تقديرًا لى، رغم أنهم يرون أن هذه اللغة تخص أهل المدينة ولا تناسبهم.
عادت المياه الى مجاريها، وجاءت زوجته بقطعة حلى تخص نساء القبيلة، ولفتها حول عنقى، فى لحظة اندمجت خلالها الحداثة بالقبلية. تأكدت فى ذلك اليوم من ضرورة أن نعرف عن الآخر قبل التواصل معه، طباعه ولغته وعاداته، ومن يومها قررت أن أرى المشاهد بعينى الآخر، وزادت معرفتى بالقبائل بعد هذا اليوم، وعرفت أن خجلى وخوفى خلال الحفل كانا حجر الأساس لتكون تلك المعرفة، ولهذا قررت أن تكون أولى حكايات إفريقيا هى تلك الحكاية. فى البداية لم تكن فكرة القبيلة تروق لى، كنت أراها أحد أسباب فقر الأفارقة، لكننى الآن، وبعد كل ما رأيته، عرفت أن القبيلة هى سر الثراء الثقافى لسكان القارة السمراء.


أكلة: الأوجالى.. وجبة تؤكل مع أى شىء

يمكن أن نعتبر «الأوجالى» الأكلة الشعبية الأشهر فى كينيا، ولهذه الوجبة حكاية غريبة، لأنها لم تكن تمت بصلة إلى الفلكلور أو التراث الإفريقى القديم، لكن نشرها البرتغاليون الذين كانوا يزورون القارة فى رحلات استكشافية، والتقطتها الشعوب منهم وأحبوها وأصبحت طعامهم المفضل.
لـ«الأوجالى» مميزات عديدة، أهمها أنها الطعام الأقل تكلفة، حيث تكفى عملات معدنية قليلة لإعدادها، ولذلك اعتمد عليها الكينيون كطعام يسدون به رمقهم، ويتم تحضيرها بسهولة، وهى عبارة عن ذرة بيضاء، وتتولى النساء القرويات فصل الحبوب عن السيقان التى تستخدم لاحقًا فى إشعال النيران للطهى، وتجفف الحبوب تحت الشمس، ويذهب الأطفال بها مساء إلى مطحنة القرية لتحويلها إلى دقيق.
ويبدأ تحضير الوجبة بغلى المياه ثم وضع دقيق الذرة فيه والتقليب، وتختلف سماكة «الأوجالى» حسب البلد الذى تصنع فيه، ففى السودان يفضلونها سائلة قليلًا وليس بنفس الجفاف الذى يفضله الكينيون، وعادة ما تكون «الأوجالى» غير مملحة ودون أى نكهات، مجرد كرة عاجية اللون وتؤكل بالأصابع مع اللحم أو السمك أو الدجاج أو الخضروات، وباختصار تؤكل مع أى شىء وفى كل يوم.

قبيلة: «الماساى».. الجمال فى تمديد شحمة الأذن.. والرجل يحب «التعدد» غالبًا
تعيش قبيلة «الماساى»، التى تنتمى إلى العرقية النيلية وتتكون من ١٦ عشيرة، فى أكثر من دولة بشرق إفريقيا، وإن كانت عشائرها تتمركز فى دولتى كينيا وتنزانيا، بشرق إفريقيا.
وترجع تسمية القبيلة إلى لغتهم الخاصة، إذ إن «الماساى» تعنى «الشخص الذى يتحدث لغة الما»، فيما ترجع هذه اللغة نفسها إلى عائلة اللغات النيلية، وإن كان كثير منهم يتحدث اللغة السواحلية، السائدة فى شرق إفريقيا حاليًا.
لـ«الماساى» أسلوب خاص فى الحياة، ويرتدى كثير منهم الملابس التقليدية التى تتكون عادةً من قطع قماشية حمراء اللون، تُعرف باسم «شوكا»، ويتم لفها حول الجسم، مع ارتداء الرجال والنساء على السواء مجموعة من المجوهرات المصنوعة يدويًا.
وقبل ارتداء الـ«شوكا»، التى ظهرت مع تعرف أبناء القبيلة على المنسوجات زمن الاحتلال الأوروبى كانوا يرتدون جلود الحيوانات، فيما يرجع اللون الأحمر فى ملابسهم إلى اعتقاد سائد بأن هذا اللون يخيف الحيوانات المتوحشة التى تقتات على حيوانات القبيلة، لكونه يشبه النار.
يفخر أبناء قبيلة «الماساى» بعدد الأبقار التى يملكونها، ويعتبرون عادة أن شرب دماء الحيوانات الطازجة يفيد أجسامهم، كما يتّسمون بعادة ثقب وتمديد شحمة الأذن التى يعتبرونها من مظاهر الجمال.
وتقليديًا كان أبناء القبيلة يؤمنون بإله واحد اسمه «إنجاى»، والذى يظهر فى تجليات مختلفة، لكن كثيرًا منهم اعتنقوا المسيحية والإسلام مؤخرًا.
رجل «الماساى» فى الغالب متعدد الزوجات، وعند ميلاد أى طفل فى القبيلة لا تتم تسميته حتى يصل إلى سن ٣ أشهر، نظرًا لارتفاع معدل الوفيات بين الرضع، كما يجرى عزله مع أمه طيلة هذه المدة، مع عدم السماح بحلق شعورهم، وبعدها يقام للرضيع احتفال رسمى يرمز إلى بدايته الجديدة ويسمى بـ«الخروج من العزلة»، ويجرى فيه حلق شعره لأول مرة.
لغة: السواحلية.. جسر بين العرب وأبناء القارة

تمتلك قارتنا الإفريقية المئات من اللغات، ما يجعلها واحدة من أكثر القارات ثراء وتنوعًا، ومن أشهر اللغات فيها بعد العربية والإنجليزية والفرنسية اللغة السواحلية، التى ورغم أنها حديثة نسبيًا، إذ يبدأ عهدها فى القرن الـ١٨، يتحدث بها نحو ١٦ مليون نسمة كلغة أم، ونحو ٨٢ مليون نسمة كلغة ثانية.
وانتشرت اللغة السواحلية بسبب التجارة بين العرب والأفارقة عبر السواحل، ولهذا سميت سواحلية تيمنًا بالسواحل التى جلبتها، ولهذا سهُل على العرب تعلمها لما فيها من مزيج عربى، وكانت قديمًا تكتب بالحروف العربية رغم أنها الآن تكتب بالحروف اللاتينية.
ومن أمثلة المقارنات بينها والعربية: «أهلًا = سلامًا.. كيف حالك؟ = هبارى جانى؟.. بخير = نزورى.. كم يبلغ هذا؟ = بيسا نجابى؟.. تشرفت بمعرفتك = نا فوراهى كوكونا.. إلى اللقاء = كواهيرى».

عملة: مواجهة الفساد بـ«الشلن» الجديد


فى مواجهة الفساد المتزايد، قرر الرئيس الكينى «أوهورو كينياتا»، مدفوعًا بدهاء قبيلته «الكيكويو»، التى تشكل ٢٢٪ من تعداد السكان فى كينيا، وتعد القبيلة الأكبر فى البلاد، أن يضع الحسابات البنكية تحت رقابة صارمة، مع تفعيل نظم الدفع الإلكترونى فى جميع المعاملات اليومية، وحتى فى الأسواق الشعبية، عبر تطبيق «م- بيسا».
ورغم التحول الرقمى، استمر الفساد فى التعامل بالأوراق النقدية التقليدية «البنكنوت»، ما اضطر الحكومة إلى تغيير أوراق العملة بأخرى جديدة. وفى مواجهة التظاهرات التى خرجت احتجاجًا على تغيير العملة، التى حملت وجوه عدد من الآباء المؤسسين للدولة الكينية، من بينهم «جومو كينياتا» والد الرئيس نفسه، قرر «أوهورو كينياتا» وضع صور لأهم الحيوانات التى تشتهر بها الدولة الكينية. وأدى تصميم الرئيس الكينى إلى توقف التظاهرات ضد تغيير العملة بعض الوقت، مع تراجع معدلات الفساد فى البلاد بشكل ملحوظ. وتسمى العملة المحلية فى كينيا بـ«الشلن الكينى»، وتبلغ قيمته دولارًا واحدًا لكل ١١٠ شلنات.