رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«محمولًا على محفة المرض».. كيف دخل صلاح جاهين عالم الفن؟

صلاح جاهين
صلاح جاهين

"قبل أن أتعلم المشي، تعلمت القراءة والكتابة، وعمري 3 سنين، أمي مدرسة.. استقالت لتتفرغ لتربيتي وبدأت تعلمني، في شهور قليلة كنت أقرأ وأكتب وأضرب وأقسم.. أمي فرحت باللعبة، لكنها جنت علي وندمت بعد ذلك ندما مرا، كان عمري 4 سنين، لكني أحمل فوق عنقي دماغا كبيرا كأنه دماغ رجل".. هكذا عبر الشاعر والفنان صلاح جاهين عن الفترة الأولى من طفولته.

وفي حوار له بمجلة "الدوحة" بعددها رقم 7 والصادر بتاريخ 1 يوليو 1977، كشف جاهين عن كيفية دخوله دنيا الفن، وكانت المفاجأة أنه دخل محمولا على محفة المرض، قائلا: "إجازة صيف سنة 42، عمري 11 سنة، أقضي الإجازة عند أقارب لنا في عزبة صغيرة قرب قليوب.. قيظ الظهيرة تتفصد له المسام عرقا.. ترعة.. أغراني الصبية بالاستحمام.. نزلنا.. بلبطنا.. انبسطنا، وعدت بعد أسبوع إلى أسيوط حيث يعمل أبي.. ذات صباح دخلت الحمام لأتبول، صرخت من الألم بسبب حرقان فظيه ونقط دم: بلهارسيا".

ظل صلاح جاهين يتردد على المستشفى لأخذ حقن العلاج، وقال: والضروري أن أكون بغير إفطار، أتناول إفطاري بعد ذلك من أقرب عربة على باب المستشفى، "سندوتشات" من نوع: من لم يمت بالسيف مات بهذه، وكدت أموت بهذه.. شفيت من البلهارسيا، وسقطت مريضا بالتيفود، وتابع: في سرير المرض 4 شهور، جثة بلا حراك، وأخيرا جاء الشفاء، أقرأ في الصحف في نفس الأسبوع أن "فلمنج" العالم البريطاني اكتشف البنسلين، ويقول لي الطبيب: "البنسلين سحر طبي جديد.. لو لحقته وأنت مريض لشفيت في أسبوعين، لكن يكفي أن ونستون تشيرشل لحقه وعولج به، أبقى أنا وتشيرشل؟!

وبعدما اقترب صلاح جاهين من تماثل الشفاء تماما، كان والده يستعير له الكتب من مكتبة الجامعة الأمريكية في أسيوط ويقرأ له، واستولى على كل انتباهه العليل كتاب من دون الكتب، اسمه "مشاهير المصورين".. سيرة ذاتية لكبار الرسامين العالميين، من ليوناردو دافنشي حتى فان جوخ، وأضاف خلال الحوار: ما زلت أذكر أبي وهو يقرأ لي الفصل الأخير في الكتاب، وقد أجلسوني في سريري - لأول مرة منذ مرضت - وأسندوا ظهري إلى الوسادة، وفتحوا الشباك أمامي، واكتشفت أن الدنيا ربيع.. أشجار التوت على جانبي الطريق الممتد عبر الشباك غارقة في الكلوروفيل الأخضر، أحسست بدفق الحياة في عروقي، ووقعت في عشق الربيع، واتخذت بيني وبين نفسي قرارا سريا: أن أكون رساما.

واستطرد: كان الرسم هوايتي الثانية.. سبقته هواية التمثيل، لم ترني وأنا مثل دور أحمس قاهر الهكسوس في فريق مدرسة أسيوط الثانوية، مدير المديرية نفسه أطفأ سيجارته ليصفق لي طويلا، وقد شجعني أستاذ الرسم في المدرسة "مصطفى رفيق الارناؤوطي" الناقد الفني وأستاذ التصوير بكلية التربية فيما بعد، نمى في وجداني حبي للرسم، أعطاني لوحات كثيرة أرسمها، أذكر أول لوحة رسمتها في حياتي اخترت لها اسمها "عاصفة على الغابة"، شافها الأستاذ مصطفى وكان تعليقه: "ضربات! يدك يا صلاح ضربات فنان".

وتابع: ركبني شيطان الشعر وعمري 15 سنة، سنة 46، مظاهرات تجتاح المدارس هاتفة بسقوط الإنجليز و"الجلاء بالدماء"، سقط أحد الطلبة قتيلا برصاص البوليس.. هزني الحدث.. سهرت الليل أنظم أول قصيدة في حياتي.. نعم.. ما زلت أذكر مطلعها: كفكفت دمعي.. فلم يبق سوى جلدي.. ليت المراثي تعيد المجد للبلد.

"قررت أن ألقي القصيدة في مظاهرة الغد، لكن الغد جاء ومعه قرار من الحكومة بتعطيل الدراسة، ماذا أفعل؟ أريد أن أفضفض وأقول.. أجلست أبي وأمي في صالة البيت ووقفت فوق كنبة مرتفعة، وألقيت عليهما القصيدة، وأصبح الشعر هوايتي، ظللت أنظم شعرا عموديا حتى سن العشرين وكنت متأثرا بالمتنبي وأمرئ القيس ومقلدا، ثم تحولت إلى "الشعر المجزوء" أو ما يسمونه الشعر الحديث".. هكذا أوضح جاهين.

وأضاف: بعدها قرأت أعمال بيرم التونسي وصادقته شخصيا، وخرجت من عزلتي واختلطت بالناس، وفي يوم، سنة 51..قضية الإقطاع في "بهوت"، رأيت في الصحف صور الفلاحين وهم يساقون كالقطيع، أدمى الحدث وجداني، قلت لنفسي: "لا فائدة لشعري إن لم أكتب بلغة هؤلاء الناس"، ومن يومها تحولت إلى العامية أكتب الزجل.. لكني مع الزمن اكتشفت أني أكتب بالعامية أفكار فصحى.