رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس.. رابح النفوس الحكيم بالأبوة


عُرفت الكنيسة القبطية فى العالم أجمع بـ«كنيسة الآباء»، وهذا ما رأيناه بكل وضوح من خلال تعاملاتنا مع البابا كيرلس السادس، البطريرك ١١٦، الذى وضع نفسه بالحق من أجل شعبه، وعاش فقيرًا فى جميع الأمور المادية ليرفع من شأن شعبه فى الأمور الروحية، فغدا شعبه مرتبطًا بالكنيسة بحق، مستهينًا بالماديات، ومتطلعًا إلى السمائيات.
ليس هذا فحسب، بل إن جميع الآباء المطارنة والأساقفة فى عصره تشبهوا به فى فقره الاختيارى، لأنهم أصلًا رهبان تركوا العالم وذهبوا يبحثون بصدق عن الواحد وهو الله. والإنسان الفقير شجاع يدافع عن المظلوم، ولا يقول إلا كلمة الحق بشجاعة منقطعة النظير. جميع هذه الصفات رأينا البابا كيرلس متحليًا بها بوضوح شديد.
عاش البابا كيرلس راهبًا حقيقيًا طوال حياته ما قبل الرهبنة، ثم راهبًا بدير البراموس فراهبًا بدير الأنبا صموئيل، ثم متوحدًا بطاحونة الهواء بمصر القديمة ثم بدير مار مينا بمنطقة الزهراء بمصر القديمة ثم فى فترة بطريركيته الجليلة. فكانت رهبنته متجلية بكل وضوح لكل من تعامل معه وعاش معه وتقابل معه. كان طعامه فى غاية البساطة، ومعاملته للجميع ملتحفة بكل تواضع. لم نسمع أنه أحضر إلى مقر إقامته فى قلايته بالبطريركية سواء بمنطقة الأزبكية بوسط القاهرة أو مقره الرئيسى بالإسكندرية، أشهر الطباخين ليعدوا له أفخر الطعام له وللمحيطين به.
بل كان يعيش على قليل من الطعام وأحيانًا كثيرة دون طعام. حتى إنه فى خلال فترة إقامته بدير مار مينا بمريوط كان يتناول نفس طعام الرهبان. كانت الصلاة هى شغله الشاغل، ومن المناظر المؤثرة جدًا عندما شاهدناه، فى أول زيارة له للكنيسة الإثيوبية الشقيقة، نازلًا من سلم الطائرة وخلفه سكرتيره الروحى القمص مكارى السريانى وبجواره الأنبا أنطونيوس مطران سوهاج والمنشاة، وكان البابا كيرلس السادس يحمل بيديه، وهو على سلم الطائرة الأوانى الخاصة بصلوات القداس، إذ كانت الصلاة تشغل كل قلبه وفكره. وبعد أن تم استقباله الاستقبال الرسمى فى مطار أديس أبابا توجه مع الوفد المرافق وأساقفة الكنيسة الإثيوبية إلى الكنيسة وأقام الصلاة.
لم يكن البابا كيرلس السادس قادرًا على الحياة دون الصلاة اليومية. فلم يقض وقته فى أى أستقبالات رسمية، إذ كان يفضّل أن يجلس مع أبناء شعبه، وكان فكره منشغلًا بالأمور السمائية ويحتقر جميع الأمور الأرضية، من هنا نجد أن جميع الذين تتلمذوا على يديه، وعاشوا معه شربوا منه هذه الحياة الرائعة.
كانت معاملاته مع الأساقفة والكهنة والرهبان والشمامسة والشعب تتميز بالأبوة العالية، لم يحدث على مدى فترة جلوس البابا كيرلس السادس على الكرسى البابوى ما يُقرب من ١٢ عامًا أن اتهمه أحد الرهبان بالديكتاتورية!! لم يحدث طوال فترة بابويته أن طالب أحد الكهنة بعزله!! لأنه كان محافظًا على تقاليد الكنيسة وقوانينها وعلى لغة الكنيسة، لأنها لغة آباء الكنيسة، لم يحدث طوال فترة بابويته الجليلة أن حارب بشدة أحد تلاميذه!! سواء بالداخل أم بالخارج. بل ظل - حتى هذه اللحظة - هو الأب الرائع الذى يتعمق الإنسان فى التأمل فى حياته الجميلة. لقد رأينا فيه صورة البابا كيرلس الأول عمود الدين، وصورة البابا كيرلس الرابع أبى الإصلاح، وصورة البابا أثناسيوس الرسولى المدافع عن الإيمان. كل هذا الذى رأيناه فى البابا كيرلس السادس يعود إلى النشأة الطيبة التى نشأ عليها، وعلى الحياة المقدسة التى عاشها، وعلى الفقر الاختيارى الذى اختاره لنفسه كتلميذ أمين لآباء الرهبنة الأولين.
والأب يتصف بالتواضع والمحبة الصادقة أيضًا، ومن الوقائع التى نذكرها للبابا كيرلس السادس موقفه من إغلاق كنيسة مار جرجس بحلوان عام ١٩٦٢. والخادم الأمين فى قصة كنيسة مار جرجس بحلوان هو المهندس فوزى وهبة حبشى. الذى وُلد فى ٦ نوفمبر ١٩٣٢ بمنطقة العدوية بحى بولاق بالقاهرة، وبعد أن أكمل دراسته بكلية الهندسة التحق بالمصانع الحربية عام ١٩٥٤ ثم بالهيئة العامة للطيران عام ١٩٦٠.
تربى منذ طفولته فى كنيسة الشهيدة دميانة بالعدوية وترعرع فيها، وبمرور الوقت صار أمينًا لخدمة التربية الكنسية بها، كما اهتم بإعداد مجموعة من الشمامسة بالكنيسة، وكانت لديه مقدرة على مواجهة الأفكار والتيارات الغريبة، التى كانت تحيط بالمنطقة متسلحًا بتعاليم كنيستنا المقدسة. فى عام ١٩٥٧ ارتبط بزوجة فاضلة كانت له معينة فى خدمته الكنسية، وأقام بمنطقة الخلفاوى بشبرا، وبعد فترة استقر بمنطقة حدائق حلوان. فى أثناء خدمته بمنطقة حدائق حلوان اتفق مع بعض الأقباط المقيمين بالمنطقة على إنشاء كنيسة باسم مار جرجس، وبالفعل قام أحد الأهالى ويُدعى المقدس يونان بالتبرع بقطعة الأرض، وأقام فيها حجرتين لتأدية الصلاة بها.
ذهب بصحبة بعض الأقباط بالمنطقة لمقابلة البابا كيرلس السادس الذى بارك العمل وفرح به وتم افتتاح الكنيسة فى ١٣ أغسطس ١٩٦٢، حيث حضر فى الساعة الرابعة من فجر هذا اليوم - نعم الرابعة صباحًا - قداسة البابا كيرلس السادس، وكان الشعب فى انتظاره وتم الافتتاح بإقامة قداس إلهى فى الفجر. لكن عدو الخير لا يهدأ فى محاربة عمل الله، ودون الدخول فى تفاصيل بعد فترة تم إغلاق الكنيسة وتشميعها حتى لا يدخلها أحد، فاضطر الأقباط للصلاة أسبوعيًا فى الشارع المواجه للكنيسة وكان يرأس الصلاة الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والإجتماعية «١٩٦٢ - ١٩٨١»، وكان يتناوب معه فى الصلاة الراهب القمص بولس البراموسى «فيما بعد الأنبا مكاريوس أسقف قنا»، وكانت أخبار الكنيسة تصلنا بانتظام فى الإسكندرية.
لم يتوقف الأمر على ذلك، بل تم نقل خمسة أشخاص من أبناء حدائق حلوان وعلى رأسهم المهندس فوزى إلى معرض المصانع الحربية فى ميدان التحرير بالقاهرة، ثم تم نقله بعدها بقليل إلى جمرك المصانع بالإسكندرية عام ١٩٦٢، كما تم نقل صديقه الأستاذ بشاى إلياس «فيما بعد القمص بشاى إلياس» إلى سوهاج «وهو شقيق القمص مرقس مرقس إلياس كاهن كنيسة مار مرقس بتورنتو- كندا وأول كاهن يخدم فى بلاد المهجر بأمريكا الشمالية».
عندما علم البابا كيرلس بما حدث للمهندس فوزى، لأنه أب بل وأب محب، استضافه بالمقر البابوى بالكنيسة المرقسية الكبرى بالإسكندرية بالدور الأول، حيث كان الدور الأرضى مخصصًا لمكاتب موظفى البطريركية، والدور الثانى الجناح الخاص بالبابا كيرلس السادس والأساقفة. وكان دائمًا قداسته يسأل عن أحوال المهندس فوزى بعبارة مشهورة كنا دائمًا نسمعها من البابا الرائع: «فين الواد بتاع الحدائق وعامل إيه دلوقتى». وكان المهندس فوزى يحرص على أن يحضر معنا فى القداسات المبكرة التى كان يقيمها البابا بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية.
فى عام ١٩٦٢ اصطحب البابا كيرلس، لأنه شجاع، وفدًا من شيوخ المطارنة والأساقفة وذهب بهم إلى منزل الرئيس عبدالناصر «١٩٥٢ - ١٩٧٠» فى منزله بمنشية البكرى، وعرض عليه الأمر. وهنا قرر الرئيس عبدالناصر أنه لم يسمع عن هذا الموضوع من قبل، وعلى الفور أمر بفتح أبواب الكنيسة. وكنا فى الإسكندرية نتابع أخبار الكنيسة باهتمام شديد.
بعد أن أعيد افتتاح الكنيسة، انتقل بعدها المهندس فوزى إلى القاهرة فى مكتب المشروعات الحربية ثم استقال وبدأ أعمالًا حرة. كما بدأ العمل الجاد فى بناء الدور الأول بتعاون الجميع، وأصدر الأنبا بولس - أسقف حلوان فى ذلك الوقت- قرارًا بتولى المهندس فوزى نظارة الكنيسة، وقام باختيار من يعاونه فى تلك المهمة، فأتم جميع لوازم الكنيسة وأنشأ مخازنها التى تحوى جميع ما يلزم أخوة الرب، وزيّن الكنيسة وزودها بالأيقونات. كما اهتم بإنشاء حضانة للأطفال فى الكنيسة، ثم أنشأ بها مستوصفًا. حقًا رابح النفوس حكيم.