رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طبيب بمستشفى 15 مايو للعزل: وجودى ضمن «الجيش الأبيض» واجب وطنى

الدكتور محمد توفيق
الدكتور محمد توفيق

لم تكن المخاوف من مرض السكري؛ قادرة على إرهاب الدكتور محمد توفيق، أخصائي الجراحة، ومنعه من المشاركة في صفوف الجيش الأبيض المصري لمحاربة فيروس كورونا.. لم يكُن مطلوبًا من الطبيب أن يُشارك من الأساس؛ فتخصص الجراحة كان بعيدًا عن المسألة في بداية الأزمة، ومرض الرجل وسنوات العمره التي تخطت الأربعين، كانت تُعفيه من تلك المُهمة.. لكن قرارًا قويًا نبُع من شعور بالمسئولية تجاه الوطن؛ جعله يتطوع ضمن فريق مستشفى العزل الطبي بمستشفى 15 مايو للعزل الطبي بالقاهرة.. الشعور بالفخر بات يُلازم الرجل بعد مهمته.. وزوجته الطبيبة تسلمت الراية لمحاربة كورونا في مستشفى حلوان.. ومعجزة إنقاذ مريض "الدوالي" أسعد لحظاته ـ كما يقول.. "الدستور" حاورت الطبيب الذي عاد بنا في رحلة مع الزمن إلى بداية الأزمة حتى نجاح المهمة.

**في البداية، حدثنا عن كواليس انضمامك للجيش الأبيض في محاربة فيروس كورونا المستجد؟
أنا أخصائي جراحة، ولم يكن تخصصي مطلوبًا في مستشفيات العزل في بداية أزمة كورونا، كما أنني أبلغ من العمر 43 عامًا، وكان المطلوبيون وقتها هم الأطباء صِغار السن، وكان بإمكاني القول إنني ليس لي علاقة بالأمر، والبقاء في المنزل، لكنني شعرت بأنه لا يجب أن أنتظر في الأساس أن يُطلب مني ذلك، ولا بد أن أتطوع بنفسي.. كما أنني أعلم أنهم لن يطلبوا مني (آنذاك) لمرضي بالسكري وتجاوزي الأربعين عامًا، غير أن الشعور بالمسئولية قادني لأن أذهب متطوعًا للوقوف مع شباب الأطباء من أجل محاربة هذا الوباء.

**ماذا فعلت بعد ذلك؟

كثيرون من حولي كانوا معترضين على رغبتي هذه؛ من بينهم زملاء لي وقياداتي وبالطبع أسرتي، ورفضهم هذا كان نابعًا من خوفهم عليّ لأنهم يعرفون بمرضي بالسكري؛ لكني طمأنتهم؛ وتمسكت بقراري، واتجهت للمشاركة مع شباب الجيش الأبيض في هذه المهمة بمستشفى 15 مايو للعزل الطبي بالقاهرة، وكان توفيق الله معنا في جهودنا لمكافحة وباء كورونا المستجد.. ويمكنني القول أن هذه الفترة كانت من أجمل فترات حياتي، فكنا نشعر أن مصر في حرب ويجب أن نُشارك في الدفاع عن وطننا؛ كنا نشعر ونثق أننا في مهمة وطنية؛ ونفخر بما نقوم به؛ وهذا كان دافعًا كبيرًا ومحفزًا لنا لبذل الكثير من الجهود خلال عملنا داخل مستشفى العزل.. هذا ما في داخلي وما في قلبي، وأقوله بكل أريحيه دون تجميل للكلمات.. هذا شعوري طيلة فترة انضمامي لمواجهة الفيروس من داخل مستشفى العزل.

**كم من الوقت قضيت داخل المستشفى.. وكيف كنت تتواصل مع أسرتك؟

15 يومًا قضيتها داخل مستشفى العزل الطبي بـ15 مايو، لم يكن هناك تواصل مع أسرتي طيلة هذه الفترة سوى عن طريق مكالمات الصوت والصورة (الفيديو).. وهم كانوا قلقين عليّ آنذاك؛ لأن المرض كان في بدايته.. قضيت داخل المستشفى الفترة من 15 مارس إلى 30 من الشهر ذاته، وبعد خروجي اتجهت لعزل نفسي في مسكن آخر بعيدًا عن منزلي، لمدة 15 يومًا، وكانوا يأتون ليّ بالطعام ويتركونه أمام باب مسكني هذا ثم يرحلون، وعند انتهاء هذه الفترة، عُدت لمنزلنا، ولكن عزلت نفسي في غرفة أيضًا لمدة أسبوعين آخرين خوفًا عليهم من أن أنقل أي عدوى لهم، أي أنني ظللت شهرا ونصف الشهر دون تواصل حقيقي مع أسرتي.

** صف لنا شعوركم في هذه الفترة؟

لا أخفي عليكم؛ نحنُ كنا في حالة من الرُعب آنذاك، فالمرض كان في بدايته؛ وكانت المخاوف منه كبيرة، فهذه الفترة التي أُحدثك عنها كانت في الأسبوع الثاني لفتح مستشفيات العزل في مصر.. نحنُ أطباء كِبار، لكننا نتعامل مع مرض لا نعرفه، وكنا نشاهد أشياء جديدة حول المرض باستمرار، وأعراض مختلفة، لكن التوتر كان يندثر شيئًا فشيئًا حينما نتجمع (الأطقم الطبية) نهاية كل يوم لنتناول الطعام سويًا ومشروباتنا الساخنة ونتبادل الأحاديث.. هذا الوقت كان يهوّن علينا كثيرًا أثناء فترة وجودنا داخل مستشفى العزل، ويخفف من التوتر الذي كنا نعيشه طوال اليوم وسط الفيروس الذي كان مجهولًا بالنسبة للجميع.

**ما هي أهم المصاعب التي تواجهها الطواقم الطبية أثناء العمل داخل مستشفيات العزل؟

سأُحدثك عن شىء واحد، وهي الملابس الواقية من الفيروس، فمن الممكن أن تظل لمدة ساعة وأنت تقوم بارتداء هذه الملابس، كل هذا من أجل الدخول لمدة 5 دقائق فقط لمريض بالكورونا.. الملابس ثقيلة للغاية، ويبدو لك أنك لا تشعر بجسدك نتيجة العرق الكثير بعد ارتداء كل هذه الملابس الواقية، لكن في الحقيقة كل هذه المتاعب تهون عندما تشعر بأنك تؤدي مهمة لوطنك.. مهمة في حرب، نعرف أن ما نقوم به لا يختلف عن المهمة التي أداها ضباط بالجيش المصري الذي شاركوا في حروب من أجل الوطن، وظلوا يفتخرون طيلة عمرهم بما قاموا به من أجل بلدنا.. كنا نعرف أننا نفعل نفس الشىء، وأننا سنفتخر نحن أيضًا بما نُقدمه داخل مستشفيات العزل، والشعور بالفخر زاد لمشاركة زوجتي (أخصائي نساء في مستشفى حلوان العام) في مهمة مواجهة الفيروس هي الأخرى؛ بعد تحويل المستشفى الذي تعمل إلى مستشفى عزل طبي، لتؤدي المهمة في صفوف أطباء مصر الذين أصبحوا فيما بعد مطالبين جميعًا بالوقوف باختلاف تخصصاتهم، لمواجهة هذا الوباء.

** وكيف كان شعوركم كأسرة عند انضمام زوجتك الطبيبة هي الأخرى في المهمة؟

نحنُ لا نرى بعضنا كثيرًا بسبب مهامنا الطبية التي تجعلنا كثيرًا في العمل؛ وقد لا تتوافق أوقاتنا لنلتقي؛ لذلك لم يكن الأمر مختلفًا كثيرًا عما كنا عليه، لكن الشعور بالفخر ازداد بالطبع أن اثنين من نفس الأسرة شاركا في مهمة محاربة الفيروس لحماية مصر من هذا الوباء.

** ما هي أهم المواقف التي حدثت معك خلال فترة وجودك بالعزل الطبي في مستشفى 15 مايو؟

هُناك مشهد حدث في مستشفى 15 مايو للعزل الطبي، لا يُمكنني نسيانه؛ وتحدثت عنه وسائل إعلام وقتها.. أنا حضرته بنفسي.. ويتعلق بأحد مرضى الكورونا، حيث كان هذا الرجل يُعاني من وجود دوالي على المرئ، وأثناء وجوده داخل المستشفى لتلقي العلاج؛ تعرض لنزيف مما يُعرض حياته لخطر كبير في هذه الحالة، ونحنُ نعرف أن هذا النزيف إن حدث لهذا النوع من المرضى (مرضى الدوالي على المريء) وهو في منزله، فإنه بنسبة 90% يتسبب في وفاته؛ وهذه نسبة معروفة عالمية في شأن هذا المرض، فقد تحدث الوفاة أثناء نقله للمستشفى، أو أثناء علاجه.. لأن مهمة علاجه وإنقاذ حياته تحتاج التدخل في وقت سريع للغاية، فحتى إن بقي على قيد الحياة حتى وصوله للمستشفى، فإنه يحتاج لتواجد طبيب باطنة ومنظار وتخدير في نفس الوقت؛ يكون جاهزين وفي انتظاره، وهو ما قد لا يتوفر بأن يجتمعوا في نفس الوقت؛ مما يُقلل من آمال وجوده على قيد الحياة إن تعرض للنزيف هذا وهو خارج المستشفى.

في هذا الوقت كان الأطباء الثلاثة متواجدين معنا داخل مستشفى العزل، وفي وقت مثالي؛ تدخل أطباء المنظار والباطنة والتخدير من أجل إنقاذ حياة هذا المريض.. كان الجميع معًا يعمل على هذه المهمة؛ وبالفعل تمكنوا من إنقاذه، ونجا من أزمة صحية تودي بحياة 90% ممن يتعرضون لهذا النزيف.

هذا المريض كان ـ بالطبع ـ كارهًا لفيروس كورونا حينما أصابه، لكنه لم يكن يعلم أن ما حدث له كان بتدبير من الله من أجل أن يحدث له هذا النزيف وهو على مقربة من الثلاثة تخصصات الطبية التي يحتاجها من أجل إنقاذ حياته، ولو لم يُصاب فيروس كورونا، لكان بنسبة كبيرة تعرض للوفاة جراء هذا النزيف الحاد.