رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا عفو.. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا «٢- 2»




الفرق بين العفو والغفار:
العفو أبلغ من المغفرة.. كيف؟ هناك من يتعامل معه الله تبارك وتعالى بالمغفرة، وهناك من يتعامل معه الله بمنزلة أعظم.. بالعفو، فأنت ماذا تستحق؟ أما هو فغفور وعفو.. المغفرة أنك إذا فعلت ذنبًا فالله يسترك فى الدنيا، ويسترك فى الآخرة، ولا يعاقبك على هذا الذنب، لكن الذنب موجود! أما العفو فالذنب غير موجود أصلًا، كأنك لم ترتكب الخطأ، لأنه أزيل ولم تعد آثاره موجودة، لذلك فهو أبلغ.. فقد تكون عملت صغائر، ولم تتقرب من ربنا أو لم تدرك ليلة القدر أو... فتأتى يوم القيامة فتجد الغفور، وقد تكون عملت كبيرة، فتُبت وعدت وأدركت ليلة القدر وعبدت الله فيها.. فتجد يوم القيامة العفو.. والعفو لا يذكرك بسيئاتك لأنه محا، أما الغفور فقد يذكرك بسيئاتك ثم لا يعاقبك، والغفور قد يغفر لك ولا يرضى عنك، أما العفو فراضٍ بالتأكيد.
مثال للفرق بين العفو والغفور يوم القيامة: حديث النبى، صلى الله عليه وسلم: «يأتى العبد يوم القيامة فيقول له الله تبارك وتعالى: ادنُ عبدى، فيقترب العبد، فيرخى الله تبارك وتعالى عليه ستره، فيقول له الله: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟- لاحظوا أن الذنوب موجودة فى الصحيفة- فيقول: نعم يا رب، فيظن العبد أنه هالك، فيقول له الله: سترتها عليك فى الدنيا وها أنا أغفرها لك اليوم»، هذه مغفرة، لكن العفوّ ماذا يقول لك يوم القيامة؟ «يا فلان، إنى راضٍ عنك لما فعلت فى الدنيا، قد رضيت عنك وعفوت عنك، اذهب فادخل جنتى»، أرأيت الفرق بين هذه وتلك؟ فأى منزلة تريد أنت؟ والعفُوّ تلقاه يوم القيامة فيقول لك: «تمنَّ يا عبدى واشتهى، فإنى قد عفوت عنك، فلن تتمنى اليوم شيئًا إلا أعطيتك إياه».
العلاقة بين العفو والتواب: قد تذنب، ثم تتوب وتقول: يا رب، لن أعيدها ثانية، ثم تعود فتذنب نفس الذنب، فتتوب وتقول: يا رب لن أعيدها، ثم تذنب وتتوب الثالثة والرابعة.. وبعدها تصعب عليك التوبة، لماذا؟ فقدت الثقة بنفسك، وتخجل أن تقولها مجددًا فلا تلتزم بها، فتصبح هناك فجوة بينك وبين الله، وتصعب عليك العودة، يصبح هناك حاجز ولا تعود تفكر فى التوبة، لكن الله يحبك ويريدك أن ترجع، فكيف يزول هذا الحاجز لتتوب من جديد؟ يزول بأمر غير عادى، غير تقليدى، شىء ضخم، هدية كبيرة يتودد بها الله إليك ليكسر هذا الحاجز، هذه الهدية اسمها ليلة القدر، فهى ليلة عفو تمحو كل ما سبقها، فما عليك إلا أن تُقدِم وتُقبِل عليه فى هذه الليلة لتبدأ من جديد، فيقودك العفوّ للتواب، لأن الجدار بينك وبين التوبة قد زال، فتكون هذه الليلة بداية جديدة لك مع التوبة.
هناك علاقة أخرى بين العفو وليلة القدر، فقد سميت ليلة القدر لأن بها تقدّر أرزاق العباد للعام المقبل، فما أجمل أن تكون ليلة تقدير وضعك للعام التالى هى ليلة عفو لتبدأ العام الجديد وأنت نقى.. وفى الحديث القدسى: «ابن آدم، خلقتك بيدى وربيتك برحمتى وأنت تخالفنى وتعصانى، فإن عدتَ إلىّ قبلتك، فمن أين تجد لك ربًا مثلى وأنا الغفور الرحيم؟! ابن آدم خلقتك من العدم إلى الوجود وأوجدت لك السمع والبصر والقلب والفؤاد، أذكرك وأنت تنسانى، أستحى منك ولا تستحى منى، من ذا الذى يقرع بابى فلا أفتح له؟ ومن ذا الذى يسألنى فلا أعطيه؟ أبخيل أنا فيبخل علىّ عبدى؟».
جاء رجل إلى النبى، فقال: يا رسول الله، إنى شديد الذنوب، أرأيتَ إن تبتُ إلى الله الليلة يعفو عنى؟ فقال له النبى: نعم، فقال: يا رسول الله، وغدراتى وفجراتى؟ قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فقال: يا رسول الله، وغدراتى وفجراتى؟ قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فمضى الرجل وهو يقول: الله أكبر!
جاء أعرابى إلى النبى فقال: «يا رسول الله، من سيحاسب الناس يوم القيامة؟ فقال النبى: الله، فقال: بنفسه؟ فقال النبى: بنفسه، فقال الأعرابى: الله أكبر! وابتسم، فقال النبى: لِمَ يبتسم الأعرابى؟ قال: يا رسول الله، إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح، فابتسم النبى وقال: فَقِهَ الأعرابى- أى فهم- ألا لا كريم أكرم من الله عز وجل».
وعفو خاص لأمة مُحمّد، يقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «عرضت علىّ الأمم يوم القيامة، فرأيت النبى يأتى وليس معه أحد، ورأيت النبى يأتى ومعه الرجلان، ورأيت النبى يأتى ومعه الرهط، ثم رفع لى فرأيت سوادًا عظيمًا، فقلت: أمتى أمتى، فقيل لى: لا، هؤلاء موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد يسد الأفق، فقيل لى: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفًا عفا الله عنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا سؤال، فاستزدتُ ربى، فزادنى مع كل ألف سبعين ألف».
«اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا».. هل أنت مستعد لليلة القدر؟ هل ستذهب بكل كيانك؟ هل عرفت قيمة هذا الدعاء البسيط؟ هذا الاسم العظيم الجليل من أسماء الله الحسنى، الاسم الذى يجعلك تتساقط خجلًا.. عيشوا مع هذا الاسم وأبلغوه للناس.
اعف عن الناس كى يعفو الله عنك، اجعلوها ليلة عفو، لأن هذه الليلة أغلى من الدنيا بما فيها، وقل له: يا رب اشهد، فأنت الكريم العظيم العفو، أنا المخلوق الضعيف عفوت عن الناس يا رب فاعف عن هذا المسكين الذى عفا.
أبوبكر الصديق يوم حادثة الإفك، بعدما برّأ الله السيدة عائشة، أقسم أن يقطع نفقة كان يجريها على مُسطح بن أثاثة، فأنزل الله تبارك وتعالى: «وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ...» (النور: ٢٢)، فقال أبوبكر: بلى، أحب أن يغفر الله لى، والله لا أقطع عنه المال ما حييت، وأعاد له النفقة.
تخيل لو أنك عشت بهذا الاسم.. اسم الله العفو.. من كثرة تعلقك وإحساسك به، تعبد الله به كأنك تراه.. أسماء الله الحسنى طريق الإحساس العميق بالله.. طريقك للإحسان.