رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد رفعت.. قيثارة السماء «2-2»



أوضحت السيدة هناء حسين محمد رفعت، حفيدة الشيخ، أن أبناء الشيخ رفعت ظلوا طوال حياتهم عاكفين على إعادة إصلاح ومعالجة هذه الأسطوانات، وأن والدها أهدى الإذاعة ٣٠ ساعة بصوت الشيخ رفعت دون مقابل، وهى كل التراث الذى نسمعه حاليًا للشيخ رفعت، مؤكدة أن الأحفاد يستكملون المسيرة ويحاولون إنقاذ ٣٠ ساعة أخرى بصوت الشيخ رفعت لم تر النور بعد، ولم تصل إلى آذان محبيه، قائلة: «نقلنا كل الأسطوانات على هارد ديسك، واشتغلنا فى كذا استوديو لإصلاحها وتنقيتها، ولكن بقدر إمكانياتنا الضعيفة، ونحتاج استوديوهات عالية التقنية وإمكانيات أكبر من طاقتنا لذلك توقفنا».
ويروى عن الشيخ أنه كان رحيمًا رقيقًا ذا مشاعر جياشة عطوفًا على الفقراء والمحتاجين، حتى إنه كان يطمئن على فرسه كل يوم ويوصى بإطعامه. ويروى أنه زار صديقًا له قبيل موته، فقال له صديقه: من يرعى فتاتى بعد موتى؟ فتأثر الشيخ بذلك، وفى اليوم التالى والشيخ يقرأ القرآن من سورة الضُحى وعند وصوله إلى «فأما اليتيم فلا تقهر» تذكر الفتاة وانهال فى البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغًا من المال للفتاة حتى تزوجت.
كان زاهدًا صوفى النزعة نقشبندى الطريقة يميل للناس الفقراء البسطاء أكثر من مخالطة الأغنياء، فقد أحيا يومًا مناسبة لجارته الفقيرة، مفضلًا إياها على الذهاب لإحياء الذكرى السنوية لوفاة الملك فؤاد والد الملك فاروق.
وكان بكّاءً تبل دموعه خديه أثناء تلاوته حتى إنه انهار مرة وهو فى الصلاة عندما كان يؤم المصلين ويتلو آية فيها موقف من مواقف عذاب الآخرة. وكان ربانيًّا يخلو بنفسه يناجى الله داعيًا إياه.
أصابت حنجرة الشيخ محمد رفعت فى عام ١٩٤٣م «زغطة» أو «فواق» تقطع عليه تلاوته، فتوقف عن القراءة. وقد سببت الزغطة ورمًا فى حنجرته يُعتقد أنه سرطان الحنجرة، صرف عليه ما يملك حتى افتقر، لكنه لم يمد يده إلى أحد، حتى إنه اعتذر عن عدم قبول المبلغ الذى جمع فى اكتتاب «بحدود خمسين ألف جنيه» لعلاجه، على الرغم من أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، وكان جوابه كلمته المشهورة «إن قارئ القرآن لا يُهان».
فارق الشيخ الحياة فى ٩ مايو عام ١٩٥٠م، وكان حلمه أن يُدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة، حتى تقرر منحه قطعة أرض بجوار المسجد، فقام ببناء مدفنه عليه، وقد كان من عادته أن يذهب كل يوم اثنين أمام المدفن ليقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم.
وصفه الشيخ أبو العينين شعيشع بالصوت الباكى، كان يقرأ القرآن وهو يبكى، ودموعه على خديه.
وحين سُئل الشيخ محمد متولى الشعراوى عن الشيخ محمد رفعت قال: «إن أردنا أحكام التلاوة فالحصرىّ، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبدالباسط عبدالصمد، وإن أردنا النفَس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعًا فهو محمد رفعت».
وعن صوت الشيخ محمد رفعت، قال الشيخ محمد الصيفى: «رفعت لم يكن كبقية الأصوات تجرى عليه أحكام الناس.. لقد كان هِبة من السماء».
قال عنه الأديب محمد السيد المويلحى فى مجلة الرسالة: «سيد قراء هذا الزمن، موسيقىٌ بفطرته وطبيعته، إنه يُزجى إلى نفوسنا أرفَع أنواعها وأقدَس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا».
وقال عنه أنيس منصور: «ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسرّ جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد فى معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أى صوت آخر».
ويصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكى يأتى من السماء لأول مرة.
وسُئل الكاتب محمود السعدنى عن سر تفرد الشيخ محمد رفعت، فقال: «كان ممتلئًا تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ».
أما على خليل «شيخ الإذاعيين» فيقول عنه: «إنه كان هادئ النفس، تحس وأنت جالس معه أن الرجل مستمتع بحياته وكأنه فى جنة الخلد، كان كيانًا ملائكيًّا، ترى فى وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض».
وقال شيخ الأزهر الأسبق مصطفى المراغى: «هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسانية».
وقال الإذاعى محمد فتحى الذى كان يلقب بـ«كروان الإذاعة»: «استمع إلى الشيخ محمد رفعت وهو يرتل سورة يوسف، لأن فن الترتيل عندنا بلغ القمة، بل أعلى الذرىٰ من الأصالة والدقة، خاصة من الشيخ محمد رفعت تبلغ بك النشوةُ الفنية غايتَها وأنت محلّق مع المرتل فى السماوات العلىٰ مع أحداث الرواية الإلهية.. يا له وهو يصور الإنسان تحت ضغط الغريزة الجامحة، ثم استمع إليه وهو يرتل على لسان امرأة العزيز (هَيت لك) مرة بفتح الهاء و(هِيت لك) بكسر الهاء فى المرة الثانية أداء عُلْويًا يسمو بالإنسان فوق نفسه».
وقال الشيخ أحمد الشرباصى: الشيخ محمد رفعت يعطينا معانى كانت غائبة عنا. وذكر علماء الموسيقى: أن صوت الشيخ محمد رفعت اجتمعت فيه كل مميزات الحنجرة العربية من الأنغام والأوتار الصوتية الخلاقة.
وفى ٩ مايو ١٩٥٠ رحل عنا الشيخ الجليل- فى يوم مولده- عن ٦٨ عامًا، تاركًا تراثًا صوتيًا خاشعًا وسيرة عطِرة، فنعته الإذاعة المصرية عند وفاته إلى المستمعين بقولها: «أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام»، أما الإذاعة السورية فجاء النعى على لسان المفتى، حيث قال: «لقد مات المُقرئ الذى وهب صوته للإسلام».
لقد رحل الشيخ محمد رفعت الذى جمع بين التقوى والاتضاع والحب الحقيقى، ولسان حاله يردد فلسفته الأخيرة التى رددها يومًا شاعرنا العظيم الأستاذ محمود أبوالوفا «١٩٠٠- ١٩٧٩» بقول:
ما الموت إلا يقظة علوية أو رتبة روحية نرقاها
وارتقى الشيخ محمد رفعت فى قلوب الملايين- حتى الآن- بعد أن ارتقى فى سماوات الله.