رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ميلاد السيد المسيح.. سلام رغم الاضطراب


يعانى عالمنا اليوم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه من جائحة كورونا، وكل يوم تتزايد أعداد المصابين ومعدلات الوفيات، وتحولت صفحات التواصل الاجتماعى إلى سرادقات عزاء إلكترونية، ويعيش البشر خلف كمامات كممت أفواه الكل دون استثناء، حتى العلاقات الإنسانية من تحية باليد وأحضان وقبلات صارت مشوبة بالريبة والحذر بين أقرب الناس، الأمر الذى جعل البشر يفقدون سلامهم، وأصبح الكل يعيش فى قلق ورعب واضطراب.
على الرغم من كل هذا، لم يتعلم الإنسان درسًا، فالكراهية لا تزال موجودة بين البشر والحروب لم تنته، وما زال الإنسان يقتل أخاه فى الإنسانية دون وازع من ضمير أو رادع من مبدأ إنسانى.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فمنذ عشرين قرنًا، وبينما كانت الأرض سابحة فى أنهار من الدموع والدماء، وغارقة فى بحار من العداء والبغضاء، وعلى سفوح الجبال القريبة من بيت لحم، وفى ليلة حالكة الظلام، شديدة البرودة، وبينما كانت جماعة من الرعاة يقومون بحراسات الليل على رعيتهم- أبرق حولهم نور، وظهر لهم بغتة ملاك من السماء ليحمل إلى الأرض بشرى ميلاد السيد المسيح، بشرى تجسد الكلمة، ومجىء السلام نفسه إلى أرضنا، وظهرت جوقة من الملائكة وهم ينشدون أنشودة السلام: «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».
وقبل أن يولد المسيح بنحو سبعمائة عام تقريبًا تنبأ عنه إشعياء النبى قائلًا عنه إنه سيدعى رئيس السلام، وقال المسيح لتابعيه: سلامًا أترك لكم، سلامى أعطيكم.
لقد رفض السيد المسيح استخدام أسلوب العنف بكل أشكاله، فلقد جاء إلى عالم كان العنف فيه وسيلة سياسية عادية للوصول إلى الأهداف، ولقد شهد القرن الأول فى فلسطين، مهد السيد المسيح، الكثير من العنف، لكن المسيح رفض اللجوء إلى هذه الوسيلة، فقد تبعته جماهير كثيرة ومع أنه لم يكن محبوبًا من أصحاب السلطة، إلا أنه كان محبوبًا من رجل الشارع، ولو طلب المسيح من الجموع أن تتوجه إلى المعسكرات الرومانية فى أورشليم لمحاربتها لما ترددت فى أن تطيعه، ولكن المسيح اختار طريق السلام، فهو لم يجد فى العنف طريقه لتغيير قلوب الناس.
إننا نستطيع أن نغير الحدود الجغرافية بالعنف، ويمكن أن نحصل على السلطة السياسية بالعنف، ويمكن أن نأخذ مالًا بالعنف، ولكن العنف لا يمكن أن يكسب ولاء القلوب، وهذا ما جاء المسيح ليفعله، فهو جاء ليملك قلوب الناس، ولما كان ملكوت الله روحيًا وليس جغرافيًا، فلم تكن هناك دوافع للحروب، لأن المحبة الحقيقية لا تُجبر أحدًا على شىء، ولو أن هناك وقتًا كان العنف لازمًا فيه، لكان ذلك وقت إلقاء القبض عليه، فقد جاءت جماعة كبيرة بسيوف وعصى فاستل بطرس وهو مقدام الحواريين سيفه ليواجه الجماعة المعادية، وأراد أن يرد الإرهاب بالإرهاب فضرب عبد رئيس الكهنة وقطع أذنه، وكان هذا رد فعل طبيعيًا من تلميذ يريد أن يدافع عن معلمه، ولكن المسيح لم يقبل هذا التصرف، وقال لبطرس: رد سيفك إلى مكانه، لأن الذين يأخذون بالسيف فبالسيف أيضًا يهلكون، وما زالت تلك الكلمات العظيمة يتردد صداها عبر العصور، فالعنف يجر المزيد من العنف، والحكيم هو الذى يتعلم من التاريخ الدروس والعبر، فالتاريخ يقول لنا إن حلول العنف لم تكن أبدًا نهاية للمشكلات.
إن سبيل المسيح هو سبيل السلام الذى يأسر قلوب البشر وعقولهم بالمحبة، ولقد أسر المسيح قلوب الناس وعقولهم بالمحبة، وكان السبيل إلى ذلك أن يرفض العنف بشتى صوره، حقًا إن السيد المسيح هو باعث كل رجاء، وهو مصدر كل سلام، إنه جاء إلى عالمنا ولم يعلن حربًا ولم يشكل سيفًا، ولكنه حارب الظلم والفساد والشر والخطيئة، لم يركب جوادًا ولم يرفع سيفًا ولا حتى صوتًا، لقد كان سيفه الوداعة، ورمحه المحبة، وسلطانه سلطان الغفران والتسامح، لم يفتح مدينة، ولكنه فتح أعين العميان، وآذان الصم، كما فتح أبواب الأمل أمام البائسين والساقطين، لم يثر مشاعر البغضة، ولم يحرض أحدًا على أحد، لكنه حرض الجميع على الحب والتآخى والعطاء والغفران بلا حدود، لقد قال عنه نابليون بونابرت:
«إن الإسكندر الأكبر وأنا أقمنا الإمبراطوريات بقدرة وعبقرية وأسسناها على القوة والسلاح، أما المسيح فقد أقام إمبراطوريته وأسسها على الحب»، حقًا إن السيد المسيح هو صانع السلام الأعظم.
إن ميلاد المسيح يعطينا رجاء جديدًا فى ميلاد عام أكثر سلامًا واطمئنانًا، وميلاد مصل ودواء شاف من وباء كورونا لتعيش البشرية فى هدوء واطمئنان وسلام.