رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مذكرات طبيب بـ«عزل إسنا»: «زارني الخوف مرة»

عزل إسنا
عزل إسنا


"الجيش الأبيض".. لقب اشتهرت به الفرق الطبية منذ اندلاع أزمة فيروس كورونا في العالم، وصنع الأطباء بمصر نموذجًا مشرفًا في التعامل مع الوباء، والمرضي الذين أشادوا بمجهودهم خلال هذه الفاجعة التي أرهقت الأنظمة الصحية في دول العالم أجمع.

حاورت "الدستور" أحد أبطال الجيش الأبيض، عبدالرحمن خيري، رئيس قسم الطوارئ في مستشفى العزل باسنا سابقًا، ليحكي تفاصيل تعامله مع فيروس الكورونا، وتأثير وجوده في الحجر على ذويه، إلى نص الحوار


- كنت على مشارف أداء اختبار مزاولة المهنة بإنجلترا.. وتركت السفر لمساندة زملائي
- واجهت أهلي للتطوع في مستشفيات العزل.. أجراس وصول المصابين كانت أكثر الأشياء رعبًا
- أول حالة وقعت الكشف عليها كانت لأمريكية.. وكنت أبتسم رغم خوفي الكبير
بدأ الطبيب بقسم الطوارئ مستشفى إسنا بمحافظة الأقصر حديثه قائلًا: "قبل أن أخوض في تفاصيل عملي في مستشفى الحجر الصحي باسنا؛ يجب أن نبدأ من معركة التطوع في مواجهة فيروس كورونا، كنت أشعر أن هذه معركة حياتي التي لابد من خوضها والفوز بها مهما كانت الخسائر".

كنت أجهز أوراقي للسفر إلى إنجلترا من أجل أداء اختبار مزاولة المهنة فيها، لكن مع بداية شهر مارس حينما بدأ فيروس كورونا في نهب مصر وسلب عدد بسيط من الأرواح قررت العدول عن قراري والبقاء في مصر.

توجهت مباشرًة إلى مقر وزارة الصحة والسكان، وقابلت محمد مصطفى، مدير إدارة الرعاية الحرجة، وأخبرته عن رغبتي في التطوع للعمل في إحدى مستشفيات الحجر الصحي، وقابل الأمر بترحاب كبير جدًا.

الجمعة 20 مارس 2020، أبلغت بالتحرك إلى مستشفى إسنا في الأقصر، وبالفعل بدأت في تجهيز حقيبتي للسفر وكانت أمي تعاونني في صمت كسرته متسائلة "أنت رايح فين؟".
رغم أن والدتي اعتادت على تكليفات وزارة الصحة بتكليف العمل في المستشفيات؛ لأن أسرتنا الصغيرة بها خمس أطباء في تخصصات متنوعة، لكنها لم تستطع أن تصمد حينما أفصحت لها عن وجهتي، وعلقت "يعني البلد مفيهاش دكاترة غيرك يا عبدالرحمن".

أيقظت والدي الذي سلم لقضاء الله وبدأ يعطيني بعض تعليمات التعامل مع الفيروس، وتركت منزلي في منطقة حدائق الأهرام وامتطيت سيارة الرعاية الحرجة ووصلت إلى وجهتي في الواحدة من صباح السبت.

فور أن وضعت قدمي في مستشفى إسنا حتى بدأت تدور في مخيلتي أفكار ومخاوف كبيرة، وصلت إلى الرهبة من التعامل مع مريض مصاب بالفيروس، حتى استقبلتني الطبيبة المسئولة عن مكافحة العدوي، وطلبت مني البقاء في غرف الراحة الخاصة بالأطباء للاستراحة من الطريق.

يقول: لم أذق ليلة كهذه في حياتي، كنت أري فيها الموت متربع على عرشه فوق رأسي وكأن نفسي تعاقبني على وجودي هنا، كانت أصوات الأجراس التي تدق فور وصول حالة جديدة هي الصوت والوحيد الذي أسمعه، لم أستطع النوم.

وفي الخامسة مسًاء بعد أن حصلت على إرشادات التعامل مع المصابين من قبل أطباء مكافحة العدوي، توجهت إلى غرفة الطوارئ لبدء العمل كنت أشعر بدقات قلبي تتصارع مع وصول أول حالة كانت لسيدة أمريكية في عمر 82، وبتوقيع الكشف عليها أثبت إصابتها بالفيروس، وبها كسرت كل حواجز الخوف وبدأت التعامل مع مصابي كورونا بشكل أكثر هدوًء، مع أخذ كافة إجراءات الوقاية والأمان.

كان العمل في قسم الطوارئ صعب للغاية.. الطواقم الطبية تعمل لأكثر من 16 ساعة
- كنت أشعر بالفخر والسعادة مع تعافي المصابين

بعد أن استفاض عبدالرحمن خيري في الحديث عن كواليس عمله في مستشفى إسنا للحجر الصحي، تحدث عن قسم الطوارئ والذي وصفه بـ "خط المواجهة الأول"، قائلًا: "المعركة تبدأ من قسم الطوارئ الذي بمجرد أن يسمع فريق عمله صوت الأجراس التي تنبأ بتوافد حالة مصابة على بوابة المستشفى يهم أفراده بالذهاب إلى استقبال المريض".

يقسم فريق الطوارئ مهام وصول المرض على أنفسهم فهناك من يعطي المريض الكمامة والقفازات؛ حتى لا ينتشر الفيروس بين الفرق الطبية، وهناك آخرون يوقعون الكشف اللحظي، والبعض يقيسون درجة الحرارة والأشعة المقطعية وعينات الدم.

الاتفاق على هذا النمط جعل التعامل أسهل مع المصابين ويقلل من الإصابات بين الفرق الطبية، كما أن الدورات الإرشادية تجعل كل طبيب قادر على حماية نفسه والعاملين معه، فيحظر التقارب أو السلام وفي كل الأحوال يتم اتباع إجراءات الوقاية التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية في بيانتها المتلاحقة عن التعامل مع الفيروس وطرق الوقاية.

سألته "الدستور" عن أكثر الضغوط التي تعرض لها في قسم الطوارئ باسنا، أجاب: خلال فترة ذروة الفيروس التي كان يتوافد المصابين بأعداد كثيرة يوميًا، ففي أحد الأيام عمل الفريق الطبي لـ 16 ساعة متواصلة بدون أي فرصة للراحة.

وخلال هذه الفترة كانا نبيت في المستشفى ولا يسمح لنا بمغادرتها أبدًا، بسبب كثرة الحالات، كنت حينها أصاب بنوبات من الاكتئاب الشديد خلال الاستماع إلى حديث المرضي، فهناك المئات من القصص المؤلمة التي أنهكها الألم النفسي أكثر من كورونا، لكن على الجانب المشرق كان هناك قصص تبث الأمل والتفاؤل في نفوسنا جميعًا.

وعن أبرز قصص الأمل، قال: جاءتنا سيدة عجوز في السبعين من عمرها، مصابة بفيروس كورونا بالإضافة إلى عدد من الأمراض المزمنة منها القلب والسكري والضغط والربو وكانت حالتها صعبة جدًا فكان الأطباء يرون أنه لا فائدة من علاجها فليس لديها فرصة كبيرة للتعافي.

قدمنا لها رعاية كبيرة نظرًا لمرضها وكبر سنها، وكانت تبث الأمل في نفوسنا قبل أن يكون في روحها، فكانت دائمًا ما تخبرنا بأن تلك الأزمة ستزول وما هي إلا أيام عصيبة قليلة ستمر عاجلًا أم أجلًا ولا سبيل لنا إلا الصمود أمام فيروس كورونا والتضرع إلى الله أن يكشف الغمة.

وجدنا في تلك السيدة ملاذنا الأمن الذي نذهب إليه ي لحظات الاكتئاب والانكسار؛ فكانت تدعو لنا طوال اليوم ما يجعل الأطباء يتسابقون لزيارتها حتى تصب على رؤوسهم كلماتها، كانت تحنو عن الجميع، حتى أننا كنا نخشي أن تموت بين أيدينا بسبب الأمراض التي تعاني منها.
وفي أحد الأيام تفاجأنا بها تتعافي وفي التحاليل التي تجرى كل فترة وجدنا أن نسبة الفيروس في جسدها قد قلت بشكل ملحوظ، وظهرت عليها علامات التعافي، وسرعان ما تعافت وخرجت من المستشفى على قدميها وأصبحت مثالًا يضرب في الصبر والتحمل والثقة في الله.


- أصعب ما قد يمر على الطبيب خلال عمله في هذه الأوقات الحرجة هو تعلقه بقصص مرضاه

نعمل بجد طوال اليوم، لا نرفض حالة واحدة طوال الـ24 ساعة، تمر علينا العشرات من الحالات بمختلف الأعمار، لكن كل طبيب يكون متولي مسئولية متابعة 10 حالات بحد أقصي حتى يتم شفائهم، ما يجعل الطبيب يتعلق بهم بشكل كبير.

فأنا على سبيل المثال أكرس الكثير من الوقت لإسعاد المرضي، فأجلس معهم نتبادل النكات والقصص، فأتذكر ذاك الطفل الصغير الذي أصيب بالكورونا، وأصبحت مسئولًا عن حالته، وكنت أذهب إليه أكثر من 7 مرات في اليوم، حتى أهون عليه مرار العزل والبقاء وحيدًا.

لكن في كل مرة تتوفي فيها حالة نشعر بألم كبير وتدخل المستشفى في نوبة من البكاء والاكتئاب الذي لا ينتهي إلا مع خروج متعافين، فيعود الأمل والسعادة من جديد إلينا، تعلقنا بالمرضي جعلنا نشعر أنهم أهلنا وذوينا، ما يجعلنا نحاول أن نصنع المستحيل لننجو بهم جميعًا من الموت في براثن كورونا.

أتذكر تلك الأسرة التي أصيب كل أفرادها، وكان الأطفال يسألون أهلهم هل سنموت تلك كانت أصعب الجمل التي لا يمكنني أن أنساها مهما حدث، وتأثرت بها حتى شعرت أن ذاك الطفل هو ابن لي.

لا يمكن لأي طبيب أن ينكر أنه تنشأ بينه وبين المريض جسر من المشاعر والتعاطف والحب خلال رحلة العلاج ما يجعلنا نرتبط بهم ونصبح أصدقاء فلا هم ينسون رحلة علاجهم ولا نحن نكل عن طلب دعواتهم.


- كنت أتواصل مع أهلي هاتفيًا.. ولا يمكن أن أنسي مكالمة أمي الأولي

بعد أن تحدث عبدالرحمن عن كواليس عمله في مستشفى إسنا، سألته "الدستور" عن كيفية تعامله مع أسرته وأصدقاءه، فأجاب: كنت أشتاق لأهلي كثيرًا خاصة في بدايات كورونا؛ لأن إدارة المستشفى لم تكن تسمح لهم بالخروج؛ بسبب زيادة الحالات والخوف على صحتهم في المقام الأول.

كنت أتواصل مع والدتي في كل أوقات الراحة وأتصل بها من خلال الهاتف، ولا يمكن أن أنسي أول مكالمة لها فور وصولي إلى إسنا، حينها أخبرتني أنني بطلها، وأنها لن تمل من الدعاء لي ليلًا ونهارًا أن يعصمني الله من الإصابة بالفيروس.

واختتم: لم أتعجب من حماية الله لي طوال فترات العمل المتواصلة لأنني قد أقدمت على هذه الخطوة لمساعدة البلاد في تلك اللحظات العصيبة، وفي أول زيارة لأهلي كنت أطبق الإجراءات الاحترازية، فلم أستطع أن أحتضن أهلي خوفًا من أن أكون حاملًا للفيروس وفي فترة الحضانة ولم تظهر عليٌ أي أعراض.