رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى رحيل جبار بئس بالحقيقة



ودعت الكنيسة الإنجيلية بمصر وشعب أسيوط، مسلميه ومسيحييه، بجميع طوائفهم فى يوم السبت ١٢ ديسمبر ٢٠٢٠ رجل إيمان قويًا وشجاعًا- فى شيخوخة صالحة- هو جناب القس «باقى صدقة جرجس» «١٩٢٩– ٢٠٢٠»، راعى الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط. وإن كنت لم أتقابل معه شخصيًا لكنى تتلمذت بصدق على أروع كتاب سجله عام ١٩٦٨ عن حياة الأمريكية الفاضلة «لليان وليم ريد تراشر» Lillian Trasher «١٨٨٧- ١٩٦١»، بعنوان «معجزات الإيمان فى حياة لليان تراشر»، التى أسست فى أسيوط بيتًا خاصًا بالأيتام، وما زال البيت يخدم بقوة الكثير من اليتامى والأرامل.
قال حبيبنا القس باقى صدقة، فى مقدمة كتابه: «ما أشفقت على نفسى يومًا، وما شعرت بعجزها فى الوقت نفسه، قدر إشفاقى عليها وشعورى بعجزها وأنا أحاول أن أستعرض فى هذا الكتاب معجزات النعمة وعمل الإيمان وتعب المحبة.. والدافع إلى ذلك الإشفاق هو خشية هذا العجز.. ثم خوفى من أن أحيد عن الهدف.. والهدف من هذا الكتاب، فى نظرى، هو أن يكون المجد لله أولًا وأخيرًا.. والحيدان عن هذا الهدف معناه أن يبلغ تكريمنا إنسانًا ما وإجلالنا خدمته واعتزازنا به حدًا فيه ننسى أن نعطى المجد لله.. لذلك أردت أن أقرر فى السطور الأولى من هذا الكتاب أن الهدف الأول والأخير منه هو مجد الله، وبنيان نفوس أولاده لله، وحثهم على السير حسب برنامج الله، وعلى الحياة بالإيمان وممارسة الاتكال على الله، والثقة فيه فى أمورنا الزمنية، كما فى أمورنا الروحية على حد سواء..».
ثم يقول: «هذا الكتاب.. سرد لحياة امرأة مؤمنة كرست حياتها لخدمة الله، فاستخدمها الله استخدامًا عجيبًا لرعاية الأيتام والأرامل والفقراء.. تفصيل لتاريخ ملجأ أقامته يد القدير.. ثم تسجيل للصعوبات والمتاعب التى واجهته، وللطرق العجيبة التى أنقذت بها رعاية الله هؤلاء المساكين من الموت جوعًا».. هذه المؤسسة الضخمة عندما زارها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى الستينيات قال عن السيدة «لليان تراشر»: «أم الأيتام المصرية».
يتذكر القس باقى صدقة أنه «ذهب مرة فى زيارة لكنيسة الملجأ- الملجأ الذى وضعت أساسه لليان تراشر، القديسة المؤمنة، وأوقفت حياتها على الخدمة المضحية فيه، الذى كانت تعول فيه، بقوة الله، ما يزيد على الألف مسكين ممَن قست عليهم الحياة وعصفت بهم صروف الأيام، فوجد كل واحد منهم من لليان (ماما) تعوضه ما فقد من عطف وحنان، وترد إليه ما سلبه الدهر منه من نعمة واطمئنان».
غمرنى عند دخولى الكنيسة شعور بالإجلال والإكبار.
عائلة كبيرة، مختلفة الأصول، متباينة التقاليد، لكنها تجتمع تحت رابطة اليتم أو الترمل.. تظللها المحبة المسيحية والأخوة السماوية، وأيضًا قلب مس «لليان» الكبير فيخفف عن كل فرد فيها مرارة البؤس والحرمان.
وانتهى الواعظ من عظته، ووقفت ماما لليان- فهكذا كانوا يدعونها- تتحدث إلى أولادها وبناتها العديدين حديثًا يبدو أنه درس الأسبوع.
لقد سمعتْ فى الأسبوع السابق فتاة تتذمر وتشكو، فكان درسها فى ذلك اليوم عميقًا فى القناعة والشكر، وكانت قد سمعتْ أخرى تنطق بعبارة قبيحة، فكان درسها فى ذلك اليوم عن اللسان الحلو والكلام الطيب، وكانت قد رأت ثالثة تترك الصابون فى الماء دون استعمال، فكان درسها فى ذلك اليوم عن الحكمة والتدقيق وعدم الإسراف، وحدث أن رأت رابعة ترفض أن تقوم بعمل شىء ما، بحجة أنه ليس فى نطاق مسئوليتها، فكان درسها فى ذلك اليوم عن الأخوة والتعاون.. وكان حديثها كله فى عذوبة ومحبة وحنان.
وبعد انتهاء اجتماع أسرة الملجأ فى الكنيسة، ذهبت لأُحيى فى إجلال واحترام تلك المرأة الأمينة المضحية، التى كرست حياتها لعمل مشيئة الله، فعمل الله بها عجبًا وإعجازًا.. نعم، فقد شعرت بأن محبتى وإيمانى وخدمتى أصفار إزاء محبتها وإيمانها وخدمتها، وشعرت بأننى أمام امرأة سلمت زمام حياتها لله، فاستخدمها الله، وأحسستُ أننى فى مكان شُيّد وأقيم حسب برنامج القدير.
وأعتز- كأحد أبناء الكنيسة القبطية- بأنى أتابع بشغف واهتمام كل أحوال ونشاط هذه المؤسسة الرائعة، لأن القلب المتسع يحتوى جميع الناس دون التفريط فى الإيمان والمعتقدات الدينية، عملًا بالمبدأ الإنسانى «رابح النفوس حكيم».
وعلى الجانب الآخر كان يشهد للحق بقوة دون خوف طالما معه الحق.. حدث فى فترة الرئيس حسنى مبارك- رحمه الله- وفى رئاسة د. أحمد نظيف للوزارة أن وقعت مشكلة فى محافظة الأقصر، فتوجه بنفسه من أسيوط إلى الأقصر وعاين المشكلة بنفسه، وبادر بإرسال رسالة إلى المسئول فى ذلك الوقت عن محافظة الأقصر قال له فيها:
«إذا كان تخطيط سيادتكم الذى تفاخرون به مبنيًا على هذه الكذبة المُشار إليها، فإنه من الأمانة للوطن أن تُحاط القيادة السياسية عِلمًا بمثل هذه الأكاذيب والافتراءات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عمليات التخريب فى الأقصر، ولإعادة النظر فى الموضوع برمته، ومحاسبة الذين ضللوا المسئولين بهذه الكذبة أو بغيرها.. رُعاة الكنائس الإنجيلية يخافون الله، وإن الذين يخافون الله حقًا لا يُرهبهم وعيد أو بطش أى سلطان.. الذين يعرفون التاريخ يعرفون أيضًا أن هذا المنزل هو جزء لم يكن يتجزأ من حرم الكنيسة وداخل أسوارها، وهو مِلكُ لها وليس لراعيه.. كما أكد «صدقة» للمسئول أن كرامة الإنسان المصرى التى انتهكت فى الكنيسة الإنجيلية بالأقصر هى أغلى على مصر من كل الأطلال ومن كل كباش الدنيا والآخرة؛ وأن كرامة السلطة- من غير بطش أو غرور أو وعيد- هى من كرامة المواطن المتواضع البسيط، والعكس صحيح؛ لأنهما معًا يُمثلان كرامة مصر عند أهلها وفى نظر العالم المُتحضِر.. كما تساءل القس باقى صدقة، فى رسالته للمسئول قائلًا: «ألا يمكن أن يكون هناك خطاب آخر مع المواطنين يعطى المواطن حقه بوقار متبادل؛ ويعيد للكنيسة حقها الذى انتهكه العناد والغرور وشهوة الانتقام؟ هل هذا هو الأسلوب الذى نعلمه لأجيالنا الشابة؟ هل هذه هى كباش اليوم التى سنتركها تراثًا لأجيال الغد؟».
وطلب القس باقى صدقة من المسئول، فى الرسالة التى بعثها إليه، أن يسود الحوار العاقل والحضارى والمهذب بدلًا من التلويح بالوعيد وبالقهر والإرهاب، وبدلًا من ترديد الأكاذيب، مؤكدًا للمسئول أن الناس ليسوا أغبياء كما يتصور، بل إن الإنسان المصرى أذكى مما يتصور.
واختتم القس باقى صدقة رسالته بقوله: «إن ما حدث هناك فى كنيسة الأقصر لم أكن أُصدقه لولا أننى رأيت وسمعت بنفسى.. وحسبنا الله ونعم الوكيل، كما أننا نحن أيضًا نؤمن بأن الله مع الصابرين».
نطلب لحبيبنا جناب القس باقى صدقة، الإنسان الشجاع الذى له العديد من المواقف الجادة والحازمة، ولم يتطرق الخوف إلى نفسه، النياح والراحة فى أفراح السماء مع جماعة الغالبين.