رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس والأبوة المستمرة


الأبوة هى كلمة تحوى معانى كثيرة فى صميم عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية. وفى كل طقوس الكنيسة- التى تمارسها بكل فرح- تضع الكنيسة صورة الأبوة فى مكانها اللائق. وهذا يعتى ضمنًا إيمان الكنيسة الراسخ بالبنوة الروحية، وهى أساس علاقتنا بالله. ومعنى الأبوة والبنوة تنفرد به الكنيسة الأرثوذكسية خاصة حتى عُرفت فى العالم أجمع بـ«كنيسة الآباء»، فلا تأتى الأبوة والبنوة من فراغ، بل لا بد أن تسبقها وتلازمها روح البنوة القوية الصادقة، أولًا لله فى ذاته وذلك من خلال آباء الكنيسة والمرشدين الروحيين الحقيقيين. وهذا ما رأيناه بكل وضوح من خلال تعاملاتنا مع البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ الذى وضع نفسه بالحق من أجل شعبه، وعاش فقيرًا فى جميع الأمور المادية ليرفع من شأن شعبه فى الأمور الروحية، فغدا شعبه مرتبطًا بالكنيسة بحق مستهينًا بالماديات ومتطلعًا إلى السمائيات.
والأبوة مستمرة سواء طوال الحياة بالجسد أو بعد الانتقال من هذا العالم، فالأبوة لا تتوقف ولا تنقطع ولا تفتر، بل تظل قوية تؤججها الروح النشطة التى بداخل الإنسان الأمين فى حياته. فالأب الروحى ينجب أبناءً روحيين ممتثلين بأبيهم الذى رأوا فيه صورة الأب الحقيقى فى كل شىء. رأينا بطريركًا يقدم طعامه إلى أولاده الذين فى أشد الاحتياج لمن يطعمهم، أما هو فيكتفى بخبزة بسيطة يستمر عليها طول اليوم، وهو فى فرح حقيقى لأنه أطعم أولاده. رأينا بطريركًا يقيم بمقر بسيط جدًا ليس فيه أى نوع من الترف أو أى شكل من أشكال العظمة والثراء. كان يقيم فى مقر بسيط بالقاهرة وآخَر أكثر بساطة بالإسكندرية، وكان يستلذ أن يطلق عليهما «القلاية البابوية». لم تكن لديه مقار أخرى سواء داخل مصر أو خارجها!! لم تكن لديه منتجعات سياحية فى أوروبا وأمريكا!! لم يكن يملك من المال الذى يقيم به الحفلات والاستقبالات والموائد لكبار القوم.
أذكر الواقعة الآتية التى حدثت فى يونيو ١٩٦٨. حدث أن وافق البابا بولس السادس، بابا روما، تقديرًا منه للبابا كيرلس السادس، على أن يبعث لكنيسة الإسكندرية جزءًا من رفات القديس مرقس المحفوظة بكاتدرائية «سان ماركو» فى فينيسيا بإيطاليا، لأن كنيسة الإسكندرية كنيسة عريقة «وليست كنيسة ثقيلة كما يقول البعض عن عدم وعى ولا معرفة ولا قراءة حقيقية لتاريخ الكنيسة». وتم تشكيل وفد بابوى للسفر إلى روما لاسترداد بعض من رفات القديس مرقس، وكان الوفد يرأسه الأنبا مرقس مطران أبوتيج، ويضم الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى والثقافة القبطية، وبعضًا من رجال المجلس الملى العام بالقاهرة، ومن المجلس الملى السكندرى سيادة المستشار فريد بك الفرعونى، وكيل المجلس. وهنا ذكر لى سيادة المستشار الواقعة الآتية: «ذهب فى يوم لمقابلة البابا كيرلس السادس وقال له: يا قداسة البابا إنه من البروتوكول فى التعامل مع الرؤساء أنه عندما نتوجه لمقابلة بابا روما أن نقدم له هدية من الكنيسة القبطية العريقة تعبيرًا عن شكرنا لما قدمه لنا من رفات ثمينة لكاروزنا الغالى. فقال له البابا ببساطة شديدة: يا ابنى من أين نقدم له هدية ونحن كنيسة فقيرة؟»، تأثر سيادة المستشار بتلك الحقيقة وطلب من البابا كيرلس السادس أن يترك له فرصة لتدبير هذا الأمر. وافق البابا على طلب المستشار وصلى له. توجه المستشار فريد بك الفرعونى إلى صديقه الحميم المهندس رمسيس ويصا واصف بالحرانية، وعرض عليه الأمر. فما كان من المهندس رمسيس ويصا واصف إلا أن عرض على سيادة المستشار سجادة كبيرة جدًا، صنع اليد، عليها قصة يوسف الصديق كاملة. وقام المهندس رمسيس واصف بوضع السجادة بداخل لفافة ورقية لحفظها. تناولها سيادة المستشار بكل الشكر وتوجه بها إلى البابا كيرلس السادس لعرضها عليه. أبدى سروره بما شاهده ودعا بالبركة للمهندس رمسيس واصف وسيادة المستشار. وفعلًا توجه الوفد البابوى إلى روما ومعه هدية الكنيسة القبطية التى تلقاها بابا روما بالشكر والتقدير، وما زالت السجادة محفوظة فى متحف الفاتيكان تعبيرًا عن الحب بين الكنيستين «دون التطرق إلى مباحثات ومناقشات عقائدية تفسد العلاقات بين الأخوة المتحابين».
يذكر الأب متياس البراموسى، التلميذ الثالث للبابا كيرلس السادس، وكان يحمل اسم الأستاذ فهمى شوقى، أن تعرض فى حياته لأزمة قلبية وعلى أثرها طلب منه الطبيب المعالج أن يلزم الراحة. ولكنه أخفى الأمر عن البابا كيرلس السادس وظل أمينًا فى خدمته دون أى تقصير. كانت حجرة الأستاذ فهمى شوقى مجاورة لحجرة البابا كيرلس بالمقر الذى بالقاهرة. وفى ليلة من الليالى طلب البابا كيرلس الشماس فهمى بالجرس الذى كان بينهما، وكان فى ذلك الوقت الشماس فهمى يخلد للراحة حسب أوامر الطبيب، فتباطأ فى الاستجابة لجرس البابا كيرلس. وبعد فترة قام للتوجه لحجرة البابا كيرلس فوجد البابا أمامه حاملًا صينية طعام بها بعض المأكولات والفواكه لابنه الشماس فهمى، وقال له: كُل يا ابنى وربنا يكون معك ويقويك ويسندك. هذه هى الأبوة التى رأيناها فى البابا كيرلس، ولم يحدث أن يتتبع أحد من أولاده بالاضطهادات والآلام، فتلاميذه الثلاثة كانوا أتقياء، لم يكن أى منهم من رجال الأعمال أو محبين للمال. وبعد أن خدموا معه فترة توجهوا للرهبنة بدير مار مينا بمريوط وأما الثالث وهو الشماس فهمى فترهب بدير البراموس «الذى كان البابا كيرلس مترهبًا به من قبل»، وفى آخر سنتين ذهب وأقام بدير مار مينا بمريوط. وكل الذين تتلمذوا على يد البابا كيرلس أخذوا من روحه واتبعوا منهجه التقشفى والعبادة بالروح والحق دون أى مظهرية كاذبة، وكان الرب قد أعد للكنيسة فى انتخابات ٢٠١٢ من يتبع مسلك البابا كيرلس فى الرعاية الأمينة، ولكن الأمور العالمية والدسائس تدخلت فى الموضوع ورفضنا اختيار الله المناسب للكنيسة، وحدث ما حدث!!
أذكر أنه فى شهر يونيو ١٩٧٠ أن توجهت لزيارة دير مار مينا بمريوط وكان البابا كيرلس السادس موجودًا بالدير لأنه كان مُتعبًا صحيًا، وكانت الزيارة للدير ممنوعة بأمر من الطبيب، حتى تتوافر سبل الراحة للبابا كيرلس، ولكن رئيس الدير الأب مينا آفا مينا سمح لى بزيارة استثنائية لمدة يومين وليلة واحدة. توجهت إلى الدير فوجدت البابا كيرلس كعادته يصلى صباحًا ومساءً، لأن الصلاة عنده كانت تمثل غنى روحيًا وزادًا يوميًا. وعندما صليت معه فى الصباح كنا نصلى بمفردنا تمامًا فى عدم وجود أى راهب معنا فى الصلاة. وبعد أن انتهينا من الصلاة وجدت البابا كيرلس السادس جلس على الأرض فجلست بجواره وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث من حيث دراستى وخدمتى بالكنيسة.. إلخ، كان الحديث حديثًا أبويًا بين الأب وابنه. وبعد أن انتهى الحديث قام من الأرض ليتوجه إلى مقر قلايته بالدير، فأردت أن أحضر له الحذاء الخاص به ليرتديه لكنه رفض تمامًا وأصر على أن يحضر الحذاء القديم الخاص به وارتداه، وطلب منى شيئًا واحدًا، إذ قال لى: «خليك معى أستند عليك حتى أصل إلى قلايتى»، كان الطلب مصدر سرورى وفرحى. فعلًا سرت عن يمينه ووضع يده اليمنى على كتفى اليمنى، أما يده اليسرى فكانت تستند على حائط الدير، وأخذنا نسير سويًا حتى وصلنا إلى مقر قلايته البسيطة جدًا، فقدّم لى الشكر وصلى لى وباركنى ثم انصرفت حتى أعود بعد ذلك إلى الإسكندرية.
كان فى الاحتفال بعيد جلوسه البابوى فى ١٠ مايو، يكتفى بالصلاة مبكرًا بالكنيسة ثم يستقبل أولاده من كهنة وشمامسة وشعب بحجرة الاستقبال البسيطة ويستفسر عن أحوالهم بأبوة معهودة ثم يباركهم قبل أن ينصرفوا وهم يشكرون الله على عطية السماء لهم بوجود هذا الأب المبارك فى وسطهم. رأينا فيه الأبوة الحقيقية التى لن تُعوض. وما زال الناس، وحتى بعد نصف قرن من رحيله، يشعرون بالبابا كيرلس يعمل فى وسطهم بقوة وبأبوة معهودة.