رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المنشاوى.. البلبل البكّاء



ولد الشيخ محمد صديق المنشاوى فى٢٠ يناير ١٩٢٠ بمدينة «المنشاة» التابعة لمحافظة سوهاج، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو فى الثامنة من عمره؛ حيث نشأ فى أسرة قرآنية عريقة توارثت تلاوة القرآن، فأبوه الشيخ صديق المنشاوى، وجده تايب المنشاوى، وجد والده كلهم قرّاء للقرآن، وفى أسرته الكثير ممن يحفظون القرآن ويجيدون تلاوته، منهم شقيقه محمود صديق المنشاوى.. تأثر بوالده الذى تعلم منه حب قراءة القرآن الكريم، فأصبحت هذه العائلة رائدة لمدرسة جميلة منفردة بذاتها فى تلاوة القرآن، بإمكاننا أن نطلق عليها «المدرسة المنشاوية».
رحل إلى القاهرة مع عمه القارئ الشيخ أحمد السيد، فحفظ هناك ربع القرآن فى عام ١٩٢٧، ثم عاد إلى بلدته «المنشاة» وأتم حفظ ودراسة القرآن على يد مشايخ مثل محمد النمكى ومحمد أبوالعلا ورشوان أبومسلم، الذى كان لا يتقاضى أجرًا على التعليم.
للشيخ المنشاوى بصمة خاصة فى التلاوة، فهو يتميز بصوت خاشع ذى مسحة من الحزن، فلُقِّب الشيخ محمد صديق المنشاوى بـ«الصوت الباكى».. ابتدأت رحلته مع التلاوة بتجواله مع أبيه وعمه بين السهرات المختلفة، حتى سنحت الفرصة له كى يقرأ منفردًا فى ليلة من عام ١٩٥٢ بمحافظة سوهاج، ومن هنا صار اسمه مترددًا فى الأنحاء.
سجل القرآن الكريم كاملًا فى ختمة مرتلة، كما سجل ختمة قرآنية مجودة بـالإذاعة المصرية، وله كذلك قراءة مشتركة مع القارئين كامل البهتيمى، وفؤاد العروسى، وله أيضًا العديد من التسجيلات فى المسجد الأقصى والكويت وسوريا وليبيا.
تلى القرآن فى المساجد الرئيسية فى العالم الإسلامى، كالمسجد الحرام فى مكة المكرمة، والمسجد النبوى فى المدينة المنورة، والمسجد الأقصى فى القدس، زار عددًا من الدول الإسلامية كالعراق وإندونيسيا وسوريا والكويت وليبيا وفلسطين والمملكة العربية السعودية.
ذاع صيته ولقى قبولًا حسنًا، لعذوبة صوته وجماله وانفراده بذلك، إضافة إلى إتقانه مقامات القراءة، وانفعاله العميق بالمعانى والألفاظ القرآنية.
حصل الشيخ «محمد» على أوسمة عدة من دول مختلفة، كإندونيسيا وسوريا ولبنان وباكستان، وكان على رأس قراء مصر فى حقبة الخمسينيات من القرن العشرين مع القراء أمثال الشيخ عبدالباسط عبدالصمد وغيره من القراء، والذين ما زالوا إلى يومنا هذا على رأس القراء، لما كان عندهم من رونق فى صوتهم جعلهم يحرزون المراتب الأولى بين القراء.
فى عام ١٩٦٦ أصيب بمرض دوالى المرىء، فنصحه الأطباء بعدم إجهاد حنجرته، إلا أنه أبى إلا أن يُكمل رحلته فى تلاوة القرآن الكريم، وظل يتلو القرآن الكريم حتى وفاته فى يوم الجمعة الموافق ٢٠ يونيو عام ١٩٦٩م.
ويروى محمود السعودى، حفيد الشيخ لابنه الأكبر، أن الشيخ بجانب شخصيته الوقورة، فإن روح الفكاهة كانت أكثر ما يميزها، حسب «السعودى»، حيث قال إن الجلوس أمام المنزل لبعض الوقت كانت عادة جده، حتى جاءه ذات مرة شخص يسأل عن منزل محمد المنشاوى، فأرشده للدور الأول وتعامل معه كحارس العقار، كما ظن السائل، موضحًا: «طلع وقابله فى البيت وقعد يضحك معاه».
كان الشيخ حريصًا على أن يتلقى بناته فرصتهن الكاملة فى التعليم، لا فرق بينهن وبين أشقائهن من الذكور، فمنهن من أصبحت طبيبة أسنان، ومنهن من تعلمت حتى وصلت إلى حد الكفاية، وآثرت أن تصبح ربة منزل باختيارها دون إجبار، وحسب حفيده فإن الشيخ تمتع بشخصية طيبة يملأها الحنان، فيقول: «أمى كانت دايمًا تقول إنها لما تزوجت من ابنه الأكبر عاشت معاه فى نفس البيت، وكان جدى يحبها، ودايمًا يتعامل معاها كأنه أبوها مش حماها».
وحسب محمود، فإن المسجد فى أسفل العمارة لم يكن مخططًا له إلا أن يكون جراجًا، حتى أوعز إلى الشيخ صديق بأن ينتفع به بنك بورسعيد وهيئة البريد مقابل أجر ليتخذا منه مقرَيْن مناصفة، وبعد أن أتم التعاقد وقبل انتقالهما إليه، أوعز صديق مسيحى للشيخ بأن يعتذر لهما كى يحوله لمسجد، ليقابل الاقتراح ما تردد فى نفس الشيخ منذ فترة، لكنه أخاف ألا يستطيع أن ينهى التعاقد قبل أن يبدأ، وشجعه صديقه ذاك كى يطلب من المؤسستين فسخ العقد، وبدأ فى إنشاء مسجده الذى يفتح أبوابه طوال ساعات اليوم، حتى يومنا هذا.. رحل الشيخ الجليل وترك ذكرى عطرة تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل.