رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بطريرك لم يوقظ خرائب بل أيقظ أمة


مع حلول فجر الأحد ١٠ مايو ١٩٥٩ تيقظ أقباط مصر على مطلع فجر عصر نهضة روحية حقيقية، وعمرانية حقيقية، وأُبوة حقيقية، وشخصية قيادية روحية حقيقية، برسامة «وليس تنصيبًا» الراهب الناسك مينا البراموسى المتوحد أسقفًا للإسكندرية باسم البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ خليفة وتلميذ حقيقى للقديس مرقس كاروز الديار المصرية. هذا الذى أشارت السماء إلى اختياره لقيادة أبناء كنيسة القديس مرقس فى القرعة الهيكلية التى جرت أحداثها المُفرحة يوم الأحد ١٩ أبريل ١٩٥٩. هذا البطريرك الرائع قال عنه الكاتب الألمانى «أوتو ميناردس»: «ليس عجبًا أن يصير الراهب بطريركًا، ولكن العجب أن يظل البطريرك راهبًا».
بدأت فكرة أحداث اليوم التاريخى الذى أثلج قلب أقباط مصر- ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩- عندما دار بفكر راهب ناسك الأب «مينا البراموسى المتوحد»، الذى كان يقيم بطاحونة هواء بمنطقة مصر القديمة، بعد أن نما إلى علمه أن إحدى الكنائس الغربية تود أن تضع يدها على منطقة القديس مينا الأثرية بمريوط، وذلك من منطلق اعتزازها ومحبتها للقديس مينا العجايبى.
ففى عام ١٩٥٤ توجه الراهب الناسك إلى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية وتقابل مع مفتش الآثار الأستاذ بانوب حبشى «١٩١٣- ١٩٥٦»، وخبير رسم الخط الفرعونى الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨ - ١٩٧٩» للتوسط لدى هيئة الآثار المصرية بالقاهرة ليصرحوا له بالإقامة بالمنطقة الأثرية بمريوط حتى يُثبت ملكية الكنيسة القبطية لتلك المنطقة، وفعلًا قاما بمخاطبة د. طوجو مينا بالمتحف القبطى بالقاهرة. وهنا يذكر لى والدى تفاصيل هذا اللقاء فقال: «فى يوم من الأيام وجدنا راهبًا فارع الطول ونحيفًا جدًا، يحمل فى يده حقيبة سوداء وجاء إلينا فى المتحف، وبعد حديث شيق وبصوت خافت عرض علينا اقتراح أهمية مخاطبة هيئة الآثار ليتمكن من الإقامة بمنطقة القديس مينا الأثرية بمريوط.. كان يتحدث إلينا من منطلق حماس شديد بداخله فى أحقية الكنيسة القبطية فى تلك البقعة التاريخية التى بغرب الإسكندرية».
وقبل أن تبت هيئة الآثار المصرية فى الطلب كانت السماء قد أعلنت عن إرادتها الواضحة- دون أى تدخل بشرى- باختيار الراهب مينا البراموسى المتوحد ليكون أسقفًا للإسكندرية ومن ثم بابا وبطريرك الكرازة المرقسية باسم البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ وذلك فى ١٠ مايو ١٩٥٩.
وعلى الفور أبدى اهتمامًا بالتعاون مع جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية- لإحياء تلك المنطقة، وقد عاونه فى ذلك أعضاء جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية من بينهم الطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى، والأستاذ بديع عبدالملك، لأن مفتش الآثار الأستاذ بانوب حبشى كان قد رحل فى عام ١٩٥٦.
ففى صباح الجمعة ٢٢ يونيو ١٩٥٩: «بمناسبة تذكار تكريس الكنيسة الأثرية بمريوط» توجه البابا كيرلس السادس إلى المنطقة الأثرية ومعه شعبه من الإسكندرية ودمنهور والقاهرة وأعضاء جمعية مارمينا وأقام صلاة فى المنطقة، وكان كاتب هذه السطور أحد الحاضرين وأنا أبلغ من العمر ٩ سنوات بصحبة والدى.
وفى يوم الخميس ٢٦ نوفمبر ١٩٥٩ توجه د. منير شكرى، رئيس الجمعية، وبصحبته الأب يعقوب البراموسى، وكيل البطريركية بالإسكندرية، ومفتش الآثار الأستاذ نجيب ميخائيل من طنطا، وأعدوا سرادقًا بالمنطقة الأثرية كما أعدوا الموضع الذى يوضع به حجر أساس الدير.
وفى فجر الجمعة ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩ «بمناسبة تذكار استشهاد القديس مينا» توجه البابا كيرلس السادس لمنطقة مريوط وأقام الصلوات بالمنطقة الأثرية، وبعد انتهاء الصلوات- وعلى بُعد ثلاثة كيلومترات من المنطقة الأثرية- وضع حجر أساس لدير القديس مينا الحديث، وبدأ فى تعمير الدير. كما سبق للبابا كيرلس السادس أن قام بتكليف الأستاذ بديع عبدالملك بكتابة اللوحة التذكارية التى وُضعت على حجر أساس الدير، التى ما زالت موجودة بالمزار الخاص بالبابا كيرلس السادس فى دير القديس مينا شاهدة على روعة الخط والحب المتبادل بين البابا كيرلس وأعضاء الجمعية. كان هذا الزمن هو زمن البساطة والصراحة والحب بعيدًا عن الفلسفات التى تُفسد العلاقات الإنسانية.
وكما يقول المؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى: «كأن لسان حال البابا كيرلس السادس يقول: إنها ساعة الآن لنستيقظ، وفعلًا بعمله هذا لم يوقظ خرائب بل أيقظ أمة، وأصبحنا اليوم نجد سيل الزوار يتدفق للتبرك بتلك البقعة المقدسة طوال أيام السنة لا لزيارة الأطلال ولكن للصلاة والسجود والرياضة الروحية، وهكذا استطاع كما كان فى الماضى ذلك العبقرى البعيد النظر بطريقته الخاصة أن يعمّق الإيمان فى قلوب أبنائه دون فلسفات بشرية. وجعل من تلك الخرائب التى طواها الزمن فى لفائف النسيان أحد المعالم الخالدة فى تاريخ نهضتنا الحديثة، وتبارى المؤلفون فى كتابة تاريخها القديم والحديث». كانت بنوة البابا الصادقة للكنيسة وأبوته الحارة لأفراد شعبه وراء كل أعماله العظيمة التى خلدها التاريخ، وحتى بعد رحيله فى ٩ مارس ١٩٧١ ما زال أولاده يتذكرون حياته المباركة.
منطقة مريوط تقع بالقرب من الإسكندرية على بُعد حوالى ٥٠ كيلومترًا منها، وبها بقايا الكنائس والأديرة وغيرها. وتتوسط هذه جميعًا، الكنيسة الرئيسية الرائعة التى طالما انتزعت إعجاب المؤرخين القدماء فأطلقوا عليها اسم «أجمل وأعظم كنيسة مصرية»، «تحفة من روائع الفن المسيحى»، «الأكروبول المسيحى القديم»، وأيضًا «المدينة الرخامية».
كان نواة منطقة القديس مينا قبرًا صغيرًا ضم رفات الشهيد المصرى مينا. ففى بداية الأمر تم بناء مقصورة صغيرة فوق قبر القديس فى أوائل القرن الرابع الميلادى ثم أقيمت الكنيسة الأولى- فى عهد البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك ٢٠- فوق هذه المقصورة فى منتصف القرن الرابع. ولما ضاقت هذه الكنيسة بالأعداد الغفيرة المتزايدة من المصلين، شُيدت على امتدادها من الجهة الشرقية كنيسة فخمة رحبة فى أوائل القرن الخامس الميلادى بأمر من الإمبراطور أركاديوس «٣٩٥ - ٤١٨م» الذى لم يدخر جهدًا فى زخرفتها وتزيينها بأثمن أنواع الرخام والفسيفساء، وقد كان لهذه الكنيسة بهاء وروعة كما يذكر المؤرخ «أبوالمكارم» (١١٤٩ - ١٢٠٩).
واشتهرت المنطقة بكميات الأوانى الفخارية الهائلة والقوارير المُحلاة بصورة الشهيد المصرى واسمه التى عُثر عليها فى شتى أرجاء العالم. إذ كان زوار المنطقة يأتون فى هذه القوارير بقليل من الماء- الذى كان ينبع من بئر بجوار القبر- واصطحابها معهم لأقاربهم ومعارفهم الذين أقعدتهم ظروفهم الصحية عن تحمل مشقات السفر. وما لبث أن تحولت الأراضى المجاورة لمنطقة القديس مينا إلى كروم وبساتين مثمرة. وهكذا قامت فى جوف الصحراء مدينة كاملة عامرة. وظلت منطقة أبومينا «كما يطلق عليها بدو الصحراء» أشهر موضع للتقديس فى مصر كلها زمانًا طويلًا إبان العصور الوسطى.
إن كنيسة القديس مينا كانت قائمة حتى القرن الثالث عشر الميلادى، بعد ذلك تكاثرت عليها عوامل التدمير وغمرتها رمال الصحراء، حتى دخلت المدينة العظيمة فى طى النسيان إلى أن أمكن اكتشافها على يد أفراد البعثة الألمانية الأثرية التى حضرت من فرانكفورت عام ١٩٠٥م بقيادة الأسقف الألمانى «كارل- ماريا كاوفمان».
وفى يوم الثلاثاء ٩ مارس ١٩٧١ غادر البابا كيرلس أرضنا بسلام بعد أن أكمل رسالته بأمانة كاملة نحو الوطن ونحو الكنيسة، وكان قد طلب فى وصيته أن يُدفن بملابس الخيش التى كانت على جسده، وأن يُدفن بدير مارمينا بمريوط. كان بطريركًا واعيًا مهتمًا بالاحتفال اليومى بالوليمة السمائية ولم ينخرط فى الاحتفالات العالمية التى لا تناسب مكانته الدينية ولا التكريمات الدنيوية الزائلة كما يفعل آخرون، فاقتنى لنفسه النصيب الصالح الذى لم يُنزع منه إلى الأبد.
إنه نموذج طيب لرجل أحب مصر، وأحب الكنيسة، فكان عصره سلامًا وبركة وهدوءًا واستقرارًا.