رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالجواد ياسين يُفنِّد المغالطات الكبرى حول الدين والتدين والديانة فى «اللاهوت»

عبدالجواد ياسين
عبدالجواد ياسين

يعمل المستشار والمُفكر المصرى عبدالجواد ياسين عبر مشروعه الفكرى على إعادة قراءة التراث الدينى ومساءلة العقل الفقهى الراسخ الذى أسس لدوغما دينية جراء الخلط بين مفاهيم مختلفة، مثل الدين والتدين، وذلك عبر مؤلفاته البارزة «الدين والتدين» و«السلطة فى الإسلام».
وفى كتابه «اللاهوت»، الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع»، يُكمِل «ياسين» مشروعه انطلاقًا من التفرقة التى حدّدها فى أعماله السابقة بين الدين والتدين والديانة.
يسعى «ياسين» فى كتابه لمعالجة ظاهرة الدين من وجهتى نظر العقل الدينى والعقل الوضعى، انطلاقًا من بحث أنثروبولوجى وفلسفى مُعمق، فبينما يُنكر العقل الدينى أى بعد اجتماعى فى الديانة، ينظر العقل الوضعى إلى الدين كظاهرة اجتماعية مصنوعة داخل العالم، ومن ثم يشرع الكاتب فى تفكيك تعاطى الأطروحتين مع اللاهوت.
يشير المفكر المصرى إلى أن كل لاهوت يعكس البيئة الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية التى ظهر فيها؛ فجميع الديانات ظهرت ضمن سياق تاريخى، وبالتالى فالمُطلق لا يعمل فى الفراغ، بل من خلال الذات وقوانين العالم. ورغم ذلك، لا يعترف العقل الدينى التقليدى وهو يتعاطى مع الدين كمُطلق مجرد قادم من خارج الاجتماع بفاعلية المؤثرات البيئية فى تشكيل اللاهوت، فهو بنظره موجود لا تاريخى ناشئ عن الوحى لا يتعدد ولا يتطور فى ذاته.
ويرتكز الكاتب إلى قاعدة عريضة تؤسس لفروق واضحة بين مفاهيم الدين والتدين والديانة، فالدين مطلق واحد ثابت فى ذاته لا يتعدد ولا يتطور، أما التدين فهو ممارسة الدين من قِبل البشر داخل العالم، بينما تعد الديانة صيغة من صيغ التدين، وهى «صيغة جماعية ملزمة ذات خصائص سلطوية تكرست داخل النسق التوحيدى بفعل وجود المؤسسة الدينية وتداخلها العضوى مع الدولة، التى ظلت تحافظ على ارتباطها التقليدى بالدين».
أطلق العقل الدينى جراء الخلط بين المفاهيم الثلاثة تصوراته حول المطلق بالمزج بين «الاجتماعى» و«الإلهى»، فالعقل الدينى ينكر أى بعد اجتماعى فى الديانة، ويرفض فكرة التفسير التاريخى للدين، ويظن أن الدين مطلق لا تاريخ له، وأن الديانة الحالية ليست تطويرًا لتجارب تدين بدائية سابقة، بل نشأت مكتملة منذ البداية.
يفرّق المفكر المصرى بين بنية اللاهوت وبنية الديانة، ففى بنية الديانة يوجد إلى جوار اللاهوت والأخلاق نظامان يغلب عليهما الطابع الجماعى هما «النظام الطقوسى والنظام التشريعى»، وتوجد مؤسسة تكرس هذا الطابع، وهو ما يرسّخ الخوف من المؤسسة وقتما يعم التدين الشعبى، مما يجعل من الخروج على ذلك النسق أزمة.
ويوضح «ياسين» أن الدين فى مبدأى الألوهية والأخلاق، بينما تُحمَّل بنية الديانة بمفردات البيئة المنتمية إلى دائرة التدين، التى جاءت نتاج الحياة الاجتماعية للبشر وأنتجت التشريعات والطقوس، ومن ثم يبدو الدين ظاهرة فردية، أما فرض خطاب اللاهوت من قِبل المؤسسة وتحوله إلى عقيدة جماعية ليس من بنية اللاهوت، بل هو مظهر من مظاهر سلطة المؤسسة أو العرف الاجتماعى فى الديانة.
ويرى الكاتب أن نقطة الصدام البارزة فى علاقة الدين بالحداثة تتمثل فى أن الذات الواعية بفردانيتها، ولتلك الفروق بين الدين والديانة قد لا تكون لها مشكلة مع فكرة الدين فى حد ذاته، لكنها ترفض سُلطة الديانة التى تُقدم نمطًا واحدًا من التدين بقوة النظام الاجتماعى.
ويُبيّن فى هذا الصدد أنه: «لا مفر من الإقرار بالحضور العميق للفكرة المُطلقة فى الروح الإنسانية مع الإقرار فى الوقت ذاته بأن هذه الفكرة لا تُعبر عن ذاتها إلا من خلال الاجتماع البشرى، أى عبر قوانين التنوع والتطور، وينتج عن ذلك أن اللاهوت ليس هو المطلق الإلهى، بل تصور البشر فى سياق تاريخى معين للمطلق الإلهى، وبالتالى فهو دائمًا فعل اجتماعى يقع فى دائرة التدين، وليس الدين فى ذاته». ومن تلك الأرضية لا يمكن القول بوجود تناقض بين القول بفكرة المطلق التى يحملها الإيمان والقول بفاعليات الاجتماع التاريخى التى يؤكدها الواقع.
ويفحص الكاتب الطابع التطورى للديانات بالتركيز على الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، ومن ثم يشرع فى رصد ذلك التحول الدينى من منطوق بسيط يدور حول المُطلق إلى ممارسات واسعة من التدين، ليؤكد أن حجم ما هو بشرى واجتماعى كان دائمًا أكبر مما هو مطلق إلهى فى منطوق هذه البنية التى تكتسب بقرار المؤسسة صلاحيات السلطة المؤبدة للمُطلق، فى مرادفاتها ما بين معنى الدين وبنية الديانة.
وبالحديث عن التكاليف الدينية، يُفند «ياسين» تلك التكاليف ذات الطابع الاجتماعى كجزء من بنية الديانة، انطلاقًا من أن القانون واقعة اجتماعية تعكس حاجات وعلاقات تاريخية وإقليمية، خاصة أنه يظل كذلك حتى وإن تضمنه نص دينى، مفصلًا الحديث عن التشريع الإسلامى لفحص طبيعته التاريخانية، بدءًا من ظهوره فى النص القرآنى كرد فعل لظروف الواقع المحلى التفصيلية والاستعارة المباشرة منه حتى تشكُّله بواسطة الفقه.
ويقدم الكاتب تحليلًا لبنية الديانة ومفهوم الوحى، فيشير إلى أنه فى اليهودية جاء الوحى معنيًا بعلاقة الرب بالشعب، وموظفًا لصالح الأغراض القومية لهذه الجماعة التى ظلت تصارع القوى المحلية والإقليمية من أجل تثبيت ذاتها كشعب، ولم يكن مطلوبًا لذاته ولا لمادته الأخلاقية الروحية التى يفترض أنها جوهر الدين، إلى أن أدت مرحلة النمو السياسى فى القرن السابع إلى التأسيس لمفهوم التوحيد.
تطورت الديانة العبرية بوجه عام عبر سلسلة من ردود الأفعال السياسية والاجتماعية التى صاغت تعاطى العبريين مع فكرة المطلق، ثم كانت الديانة المسيحية التى تبلورت كديانة مستقلة عن النسق اليهودى بانتقالها إلى الجغرافيا الرومانية الهيلينية الأوسع، متخففة من حمولة التاريخ العبرى، فتوجهت بلاهوتها إلى الأمم وأعفتها من إلزامية الشريعة، لكنها لم تقطع جذريًا مع النسق الدينى الثقافى الذى أنتجها، فظلت تحتفظ بالنصوص العبرية ككتاب مقدس.
وجاء الإسلام فتبنى الرواية التاريخية العبرية فى مجملها من قصة الآباء إلى قصة الخروج والغزو المسلح لكنعان، لكنّه قدم- حسبما يرى الكاتب- تصورًا أكثر تجريدًا أو أقل تاريخانية لمعنى الدين عبر خطابه العالمى الموجه إلى البشر جميعًا باسم الإله الواحد، فالقرآن طرح التوحيد كمقابل لمعنى الشرك فى مواجهة الخصم الوثنى فى مكة والخصم الكتابى فى المدينة.
ففى مرحلة القرآن المكى يبدأ الخطاب موجهًا لأصحاب التشكيلة الاجتماعية المشتركة، لدعوة المشركين إلى الإله التوحيدى، وفى مرحلة القرآن المدنى تنتقل الآيات لمعالجة الأحوال التشريعية للجماعة المسلمة بدلًا من أصول اللاهوت، نتيجة لظروف سياسية واجتماعية. ورغم أن ذلك التطور جاء كفعل اجتماعى، فإنه اكتسب صفة الإطلاقية وضمّ عناصر غير قابلة للتغير، صالحة لكل زمان ومكان، ما جعل العقل التراثى مكبلًا بقيوده التاريخية.