رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. إبراهيم مجدى حسين يكتب: محمد الباز يسأل «من أى شىء خلق الله قلوب الأطباء؟».. وأنا أجيب

الدكتور إبراهيم مجدي
الدكتور إبراهيم مجدي والدكتور محمد الباز

هناك سؤال ثابت في أي امتحان ماجستير أو دكتوراه للطب النفسي في كافة الجامعات في مصر أو العالم، السؤال يُطرح كتابة في امتحان النظري أو شفهيًا في امتحانات الشفوي.

يا ترى ما هو هذا السؤال؟

السؤال كيف تخبر المريض أو أهل المريض بطبيعة مرضه، خاصة إذا كان المرض خبيثًا أو يهدد الحياة؟

في الكتابة، الإجابة عن هذا السؤال سهلة لأنها موجودة في مراجع الطب النفسي ويتم تدريسها في المحاضرات، لكن في الشفهي يختلف الحال لأن كل ممتحن يرضى بإجابة مختلفة، ويضع لك سيناريو مختلفًا، تتوقف على خبرة وإنسانية الممتحن.

وأؤكد هنا على إنسانية الممتحن وليس الخبرة فقط، لأن إنسانية الممتحن تجعله يبحث عن إجابة إنسانية من الطالب، إجابة تجمع بين الأمل والعلم، بين الواقعية والإنسانية، إجابة بها الحقيقة ولكن ليست صادمة، وتجد الأستاذ الإنسان في الامتحان يقول لك تخيل أنني الحالة وأنت تشرح لي طبيعة الحال، وكيف تتفاعل مع رد فعلي وكيف تهدئ من روعي، وضع نفسك أيضًا مكان الحالة.

وهناك أساتذة آخرون منهجهم هو قول الحقيقة دون أي تجميل رغم معرفتهم بأن هذا الاحتمال صادم وقاسٍ على المرضى.

بعد انتهاء الامتحان ونجاح الطالب يجد نفسه أمام مواقف حقيقية يمر بها في عيادته الخاصة أو المستشفى الذي يشرف على الحالات فيه، وتجده أصبح على المحك الحقيقي، وأمام امتحان ليس به درجات أو تقدير، ولكنه امتحان مختلف، امتحان للإنسانية ومهنية ضمير الطب.

والاختبار هنا يدور حول أمر جدلي «هل أنت طبيب ناجح فقط أم أنت طبيب ناجح وإنسان»؟

نعم هناك أطباء ناجحون في مختلف التخصصات، والنجاح هنا بمقاييس القدرة على التشخيص وإعطاء العلاج المناسب بغض النظر عن طريقة التعامل مع المرضى وأهلهم، ولكنهم يفتقدون الإنسانية أو المشاعر والرومانسية لأن المادة والعوامل الاقتصادية طغت على المشاعر، فأصبح المريض بالنسبة لهم حالة فقط شخصها، وأعطاها علاجًا سليمًا وليس مطلوبًا منه أكثر من ذلك.

هؤلاء سيرتهم لا تبقى بعد موتهم، لا يتذكرهم المرضى بل ينسون أسماءهم سريعًا بمجرد خروجهم من عندهم من العيادة.

إذا أردت أن تصبح «طبيب إنسان» عليك أن تضع نفسك مكان المريض وأهله. عليك أن تتقبل خوفهم وانزعاجهم وآلامهم. عليك أن تداوي جروحهم وآلامهم بابتسامتك وكلامك قبل مشرطك. عليك أن تعطيهم الأمل والطمأنينة. عليك أن تتفهم ظروفهم المادية والاجتماعية وكيف تكيّف العلاج على حسب الظروف.

هذه الأشياء لم نتعلمها من الكتب، إنما رأينا كبار أساتذتنا يفعلون هذا، رأينا كيف يحكي المرضى حكايات ونوادر عن كبار الأساتذة وإنسانيتهم في التعامل مع المرضى.

أذكر لكم مقولات بعض المرضى عن الأساتذة العظماء وسأذكرها بالعامية كما يقولونها هم.

«الدكتور ده باشا ابن باشا تحسّه كده لورد إنجليزي مع نفسه، بيعمل عمليات كتير مجانًا وبيرجع الكشف للناس الغلابة».

هذا النموذج أوشك أن ينعدم وأصبحنا نرى ونسمع بصورة شبه يومية عن اعتداء الأهالي على الأطباء في استقبال المستشفيات بسبب إحساس يصل للأهالي بأن الأطباء مقصرون أو ليسوا متعاطفين مع الحالة أو يصدمون أهالي الحالة بكلام على أن حالتهم ميؤوس منها.

هؤلاء الأطباء للأسف لا حول لهم ولا قوة، لأنهم تعلَّموا فقط ما هو موجود في كتب ومراجع الطب، ولم يعلمهم أحد كيفية التعامل الإنساني مع أوجاع البشر، لم يعلمهم أحد أن الأمل يساعد في تحسين سرعة شفاء المريض والتقليل من تدهور الحالة، وأن الدراسات الحديثة أثبتت هذا وأن هناك رابطًا وعلاقة قوية بين الجسد والعقل، وأن العقل إذا ارتاح وشعر بالهدوء النفسي يؤثِّر هذا على حالة الجسم.

ما كتبته معروف للكثير من العامة والأطباء، ولكن ما دفعني إلى الكتابة هذا اليوم هو جزء قرأته من الرواية الأولى لصديقي العزيز الكاتب والإعلامي الكبير، الدكتور محمد الباز، والجزء من الرواية كان كالآتي:

طبيبها الذي أجرى لها عملية «البزل» في مستشفى المنيل الجامعي قبل أيام، قال لي مُنصرفًا بوجهه عني: مش هتعيش أكتر من أيام... حاولوا تخلُّوها مبسوطة الأيام الجاية.

أعطيته ظهري وانصرفت: هل هذا كل ما تستطيع أن تقوله لي؟

كان يمكنه أن يخفي عنّي ما عرفه، أن يقول ما يطمئنني عليها، أن يزيح عنّي هَمَّ مواجهة غيابها الطويل، أن يخفِّف وطأة كلمة الموت التي كان ينطقها دون أن يحسب وقعها على من لا يملك لمن يحب شيئًا إلا السؤال عن حاله.

الذين يعتقدون أن الإجابات مريحة، لا يعرفون أن هناك أسئلة عدم الإجابة عليها يريح أكثر.

هل عجز عِلْمُكَ عن منحي ولو مجرد أمل؟

ما أهمية كل الكتب والأبحاث والدراسات التي عكف البشر على إنتاجها، إذا كانت في لحظة تقف عاجزة عن الإجابة عن سؤال تتعلَّق به حياة إنسان؟

كم هو بائس هذا العلم الذي يمنح حامليه غرورًا باعتقادهم أنهم قادرون على كل شيء، رغم أنهم فعليًّا لا يقدرون على كثير من الأشياء.

هل يقف طِبُّكَ عاجزًا عن منحها فرصة أخرى؟

كل وفاة هي شهادة على فشل الطب في العالم، لكن الأطباء لا يعترفون أبدًا بفشلهم، عندما ينجحون فهي عبقريتهم الفَذَّة، وعندما يفشلون فهو قضاء اللَّه وقدره.

ثم لماذا تضعني أمام الحقيقة التي لا أريدها أبدًا؟

الحقيقة.. تلك الكلمة المراوغة الخادعة الخدَّاعة التي توهمنا بأن كل شيء على ما يرام، رغم أن شيئًا لا يكون على ما يرام أبدًا.

من أي شيء صنع اللَّهُ قلوب هؤلاء الأطبَّاء؟

الكتابة هنا ليست بصدد الرد على الدكتور محمد الباز ولكنها للتوضيح كيف يرى بعض الناس الأطباء، وماذا يريدون أن يسمعوا من الأطباء، وكيفية أن تساهم إجابة طبيب قليل الخبرة أو الإنسانية في تشويه صورة باقي الأطباء.

وفي النهاية أعلن كطبيب أننا نعجز أمام بعض الحالات ونطلب العون من الله، وأن الطبيب الإنسان لا يتكبر ولا يدّعي المعرفة ولا يسخر أو يستهتر بأوجاع المرضى وأهلهم.