رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيزيت سالم تكتب: الطريق والبحر في رواية «سبيل الغارق» لريم بسيوني

زيزيت سالم
زيزيت سالم

"قال لها: كنت عاشقا ففعلت ما فعلت.

قالت له: كنت طامعا، اخترت الطريق السهل، وظننت أنك فزت، ولو فكرت قليلا وجازفت أكثر لنجوت بنفسك، ولكن الطمع أعمى قلبك، لو تكلمت معنا كنا سنرشدك إلى طريق الفوز، غرقت لأنك اخترت الطريق الآمن ولم تجازف ولم تصبر.

وبعد مرور أكثر من مائة عام حيث روحه هائمة في أجسادٍ فانية، بنى سبيلا في المطرية بجوار شجرة مريم أطلق الناس عليه "سبيل الغارق"، سكن السبيل ومكث فيه بقية عمره حتى مات وولت أيامه".

رواية "سبيل الغارق" الطريق والبحر للروائية ريم بسيوني الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ والصادرة عن دار نهضة مصر، هي في الحقيقة ليست رواية عادية، هي رحلة في الحرب والحب عبر أجواء صوفية عابرة للزمان والمكان، وعبر شخصيات روائية لا تستطيع تحديد من فيهم البطل، هل البطلة جليلة المتمردة التي تعلمت في مدارس البنات أيام الخديوي إسماعيل وكانت فضيحة وقتها أن تذهب بنات العائلات الى المدرسة، والتي اشتغلت مدرسة بالمدرسة بعد نفي الخديوي وبدأت تكتب المقالات سرا وترسلها للجرائد باسم مستعار، والتي آمنت أن مصر للمصريين كما قالها أولا يعقوب صنوع، والتي آمنت بأن "المعرفه تذكر" لكل نساء مصر حتى رأت نبوية موسى تحصل على البكالوريا كأول إمرأة من مدرستها السيوفية ثم المدرسة السنية وحتى افتتاح الجامعة المصرية عام 1908، أم أن البطل هو حسن الجاهل بنظر معظم الناس والذي كان ضعيفا بحبه لجليلة ثم تحول إلى شخصية مغايرة تماما بعد حادثة الاسكندرية وتدميرها من قبل القوات الانجليزية مما تسبب في موت والد جليلة أحمد بك ثابت وأختيها واستيلاء عمها على المنزل والتجارة وإصراره على تزويجها لإبنه ليكتمل ذلها وانكسارها أمامه، فتزوجها حسن صوريا في البداية ليحميها من زواجها بإبن عمها غصبا ولمساعدتها عندما تم اتهامها بالتعاون مع الانجليز حيث فدت نفسها بدين باهظ يسدد خلال عام وإلا تم سجنها، لكن حسن عرفه أهل الباطن واكتشفوا سريرته الإنسانيه الكامنة والمخزونة داخل نفسه، فقد عرفه الشيخ الزمزمي وأوصى سيده أحمد بك ثابت بالعناية به.

وعرفه أيضا (لحظه أن وقعت عيناه عليه) الإيطالي ألفونسو موظف مكتب بريد الإسكندرية وطلب من جليلة أن تأمره بالجلوس على مقعد مثلهم واندهشت هي من اهتمام هذا الغريب بحسن "الجاهل" والذي يعرف يقينًا أنه ليس جاهلًا وأنه سوف يتذكر ما كان كامنًا في داخله وكانت هذه لحظة التنوير والتحول الكلي في شخصية حسن.

كتبت ريم بسيوني "سبيل الغارق" كتجربة وطن بمذاق صوفي، وتجلت موهبتها وإبداعها في الحوارات شديدة الروح الصوفية والتي لا تخلو من العشق، الحوارات صاغتها بشكل بديع بين الحمام والشاطر حسن، وبين جليلة وهاني ناصف، وبين الشيخ الزمزمي وحسن، وبين الشيخ الزمزمي وأحمد ثابت، ومن أجمل الحوارات على سبيل المثال حوار حسن مع الشيخ الزمزمي وهو يحتضر من صفحة 408 وحتى صفحة 410 وهو خلاصة الحكاية في اعتقادي وأذكر فقرة صغيرة منه:

"ــ لم فقد المجذوب عقله يا حسن؟
ــ لأنه عشق عشقا بلا أمل وسعى سعيه بلا يقين، وعندما انهزم ترك الهزيمة تنتشر في الروح والنفس
ــ وأنت يا حسن؟
ــ أنا أفهم أن في زمن الحزن لابد أن ننتظر المعجزات ونسعى بيقين ونعرف أن الدائرة لم تكتمل، فلا نترك الهزيمة تتملكنا حتى لو غرقت كل السفن، فقد جازف آدم وخرج من الجنة ثم سعى لأمانها نادما وهكذا هم كل البشر.
ــ وماذا تعرف أيضا؟
ــ أعرف أن البصيرة تأتي مرافقة للعذاب، ويأتي الادراك مرافقا للحروب، فعند انكساري جاءت المعجزة، أيقنت مجيئها وانتظرته، أما المجذوب فلم يدخل اليقين قلبه".

والحق أنني انتابتني الدهشة من بلاغة حسن وهو الجاهل كما كانوا يصفونه بعد أن تحول الى شخصية أخرى واسعة الحيلة قوية الإرادة فصيحة اللسان، وتحرر من عبوديته واكتشف قدراته غير المحدودة، فقد أصبح لديه بصيرة أكثر ممن حوله وإدراك يفوق إدراكهم بعد أن تحمست له جليلة دون أسئلة وهو الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ ولكنه قرأها هي عندما قال لها: "لم أعد الخادم ولا أنت السيدة، ولكنني لا أريد أن أكون سيدك بل رفيق روحك، لا التحام بين روحين لو كانت إحداهما تحلق فوق الأخرى وتخنقها، لتلتحم روحان لابد أن يحلقا معا في السماء متساويتين بنفس السرعة ونفس التلقائية، بلا حواجز في سمائهما ولا ضغينة في قلوبهما".

كنت أفضل لو تحاشت الكاتبة الاطالة والتكرار أحيانا في تطور علاقة جليلة بحسن وتكون أكثر تكثيفا، لكن الرواية تستحق القراءة والنقاش، لأنها تمتلك آفاقها الواسعة، ولأنها تمتلك مغامرتها السردية الجديرة بالتأمل، وهي من قبل ومن بعد رواية بحث واكتشاف، رواية طريق وليس وصول، رواية أسئلة وإجابات متكررة، سواء على مستوى الوطن، أو على مستوى أفراده الباحثين عن طريق.

لكنني لا أصدق أن ريم بسيوني كتبت هذه الرواية في عام أو عامين، أصدق أن الرواية مخزونة بروحها وقد حكت عنها لإبنها كما قالت بالمقدمة، فهي مكتوبة في عقلها منذ أعوام مضت ولكنها سطرتها على الورق هذه الأيام فقط، فهي تدرك في أعماقها أن دورها مازال أكبر لكنها ليست كجليلة لم تستطع القيام به، بل رهانها كان على الطريق ومحاولة الوصول الى مسالك نفسها الوعرة والتي ستنتهي حتما بسبيل النجاة.