رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على سعدة يكتب: مواقف وخواطر لا تنسى

على سعدة
على سعدة

كنت طفلًا لا يتعدى التسعة أعوام حين صحبنى الأستاذ إبراهيم فى سيارته الصغيرة للسفر من بورسعيد إلى الإسماعيلية، كان ذلك فى أحد أيام شم النسيم، وكعادة أهل بورسعيد نسافر فى هذا اليوم للإسماعيلية لنستمتع بجمال الحدائق الغنّاء هناك، ونأكل المنجأونة «خبز بورسعيدى مثل الكرواسون حاليًا يحتوى على بيض ملون»، والملانة والبصل والرنجة والفسيخ وغيرها.
ا لطريق رغم ضيقه- اتجاه واحد لا يتعدى عرضه ٦ أمتار- كان رائعًا ومظللًا تحده من الجانبين أشجار الكافور والجازورينا العالية تتخللها أشجار أخرى تملأ زهورها الجو برائحة جميلة لا زالت فى أنفى كلما تذكرتها حتى الآن.
كنت أجلس فى المقعد الخلفى وكان إبراهيم يقود السيارة وإلى جانبه يجلس مصطفى، الصديق الصدوق لإبراهيم، وهو صديق العمر الذى تربى فى بيت العائلة، وأكاد أدّعى أنه أحد أفرادها من فرط تواجده اليومى معنا.
وفى أحد منعطفات الطريق شاهدنا رجلًا يرتدى جلبابًا بسيطًا ويحمل عصا يضرب بها حماره بقسوة.. طلب مصطفى من إبراهيم التمهل والاقتراب من الرجل حتى يتمكن من صفعه جزاءً له على سوء معاملته الحيوان، على أن تمضى السيارة بنا مسرعة فورًا، وبالفعل اقتربنا منه وأخرج مصطفى كفّه الكبير من شباك السيارة ولم يخطئ قفا الرجل، وانطلقت السيارة مسرعة، إلا أن إبراهيم أوقفها عمدًا بعد ما يقرب من ١٠٠ متر، قائلًا لمصطفى: حان وقت الحساب الآن ولتأخذ جزاء ما اقترفته يمينك.
لك أن تتصور عزيزى القارئ مدى رعب مصطفى وتوسلاته لإبراهيم بالتحرك وهو يرى الرجل يقترب مسرعًا بعصاته نحونا، ولم تتحرك السيارة بالفعل إلا بعد أن اقترب الرجل جدًا وكاد يهشمها على رءوسنا جميعًا.
القصة رغم طرافتها المؤلمة فإنها علمتنى ألا أتهور أبدًا فى اتخاذ أى قرار قبل دراسته دراسة وافية وإدراك تبعاته، كان هذا الموقف أحد الدروس الجميلة التى تعلمتها وأنا رفقة اثنين من عمالقة الصحافة فى مصر.. الأستاذ إبراهيم سعدة، والأستاذ مصطفى شردى.
تدرج الصديقان فى بلاط صاحبة الجلالة، وتبناهما الأخوان على ومصطفى أمين فى دار أخبار اليوم.. وحدث أن أرسل لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عرضًا مغريًا للغاية للعمل فى دولة الإمارات، سارع الاثنان بتقديم العروض وطلبات السفر لمكتب الأستاذ إحسان عبدالقدوس، وكان رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم وقتها، إلا أن إحسان وافق لمصطفى شردى على طلب السفر ورفض تمامًا طلب إبراهيم سعدة.
تمر الأيام سريعًا ويحقق الصديقان نجاحات مبهرة، كلٌ فى مجاله، مصطفى شردى أسس جريدة «الاتحاد» فى الإمارات ونجحت بقوة، ثم عاد إلى مصر ليؤسس جريدة «الوفد» العملاقة لتنافس بشدة جريدة صديق العمر اللدود إبراهيم سعدة «أخبار اليوم»، التى كانت تعيش أزهى عصور انتعاشها تحت رئاسته.
كانت المبارزات الصحفية بينهما على أشدها فى صفحات الجرائد، وتنتهى بعشاء ضاحك فى منزل أحدهما يوميًا.
وعندما زار إبراهيم أستاذه إحسان عبدالقدوس وهو على فراش الموت.. انتحى به قائلًا: إنت لسه زعلان منى يا إبراهيم؟ سامحنى لإنى رفضت سفرك للإمارات وصممت على تواجدك معنا فى أخبار اليوم.. لأننى رأيت فيك أجدر من يجلس مكانى على كرسى رئاسة مجلس إدارة الجريدة.. وقد كان.
رحم الله الجميع.. وللحديث بقية.