رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتهت القضية.. وبقيت الأشباح


أهل بيروت، كما أهل مكة، أدرى بشعابها. وعليه، لم يعد بإمكاننا، أو بإمكانك، غير «الفرجة»، بعد ذلك الترحيب اللبنانى، إلا قليلًا، بقرار المحكمة الدولية، الأممية، الخاصة بلبنان، فى قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريرى، و٢١ آخرين. وبعد أن أعرب سعد الحريرى، رئيس الوزراء السابق، نجل الضحية، عن قبوله وعائلته قرار المحكمة.
ما استوقفنا، فقط، هو أن الحريرى الابن، طالب «حزب الله» بـ«الاعتراف بأخطائه» وبالتعاون مع المحكمة الدولية، التى أدانت أحد كوادره. كما استوقفنا، أيضًا، أن الرئيس اللبنانى، ميشال عون، وصف قرار المحكمة بأنه «تحقيق للعدالة» ورأى أنه «يتجاوب مع رغبة الجميع فى كشف ملابسات هذه الجريمة البشعة». وأعرب، فى بيان، عن أمله فى أن «تتحقق العدالة فى كثير من الجرائم المماثلة، التى استهدفت قيادات لها فى قلوب اللبنانيين مكانة كبيرة».
وقت ارتكاب الجريمة كان عون فى باريس. إذ كان رئيسًا للجمهورية، بالوكالة، وتم إقصاؤه فى ١٣ أكتوبر ١٩٩٠ بعملية لبنانية سورية مشتركة، ولجأ إلى السفارة الفرنسية، فى بيروت، وظل بها إلى أن تم السماح له فى ٢٨ أغسطس ١٩٩١ بالتوجه إلى منفاه فى فرنسا. وقبل مرور ثلاثة أشهر على اغتيال الحريرى، تحديدًا فى ٧ مايو ٢٠٠٥، عاد عون إلى بيروت، وسرعان ما دخل البرلمان بكتلة نيابية ضمت ٢١ نائبًا. ثم قام، فى ٦ فبراير ٢٠٠٦، بتوقيع وثيقة تفاهم مع «حزب الله». وفى ٣١ أكتوبر ٢٠١٦، صار رئيسًا للجمهورية، بعد حالة فراغ رئاسى عاشها لبنان، لأكثر من سنتين، بسبب فشل النواب فى التوافق على رئيس جديد للبلاد.
قرار المحكمة الدولية، الأممية، الصادر أمس الأول، الثلاثاء، أدان شخصًا أو شبحًا واحدًا، وأسقط الاتهام عن ثلاثة آخرين وميت مشكوك فى وفاته. لكنه قام ضمنيًا بإدانة «حزب الله». وكانت أصابع الاتهام، مع بدء التحقيقات، قد توجهت إلى سوريا، قبل أن يتم اتهام أربعة، ثم خمسة عناصر تابعة لـ«حزب الله»، الذى تعهد حسن نصرالله، أمينه العام، فى خطاب تليفزيونى، بعد أيام من صدور قرار الاتهام، بعدم تسليم المتهمين ولو «بعد ٣٠٠ سنة»!
ككل المتهمين الخمسة، حوكم سليم عياش غيابيًا، ولم يره أحد منذ بدء المحاكمة. فقط، تردد أن عددًا من سكان بلدته لمحوه فى مراسم دفن والده، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة فرضها «حزب الله». ويقال إن ذلك الشبح، المُدان الوحيد، يحمل الجنسية الأمريكية، كان مسئولًا فى جهاز الدفاع المدنى اللبنانى. وكان على تعاون وتنسيق مستمرين مع مصطفى بدرالدين، القيادى العسكرى فى «حزب الله»، صاحب الأسماء الخمسة، المشكوك فى وفاته، كما أوضحنا أمس.
أدلة الاتهام تم استخلاصها من تحليل وتتبع آلاف المكالمات التليفونية أجراها المتهمون، عبر شبكة مغلقة. وكانت تلك المكالمات هى «مفتاح لغز القضية»، بحسب ما كتبه زميلنا الكبير فتحى محمود، منذ ١٢ سنة، الذى كان وقتها مديرًا لمكتب جريدة «الأهرام» فى بيروت، وتابع عن قرب تطورات التحقيقات اللبنانية والدولية فى تلك الجريمة.
أطراف كثيرة استفادت من جريمة اغتيال رفيق الحريرى، التى انتفض لأجلها اللبنانيون، فور وقوعها، وصولًا إلى نزول مئات الآلاف إلى الشوارع، فى ٨ مارس ٢٠٠٥، فى مظاهرات أطلقوا عليها «يوم الوفاء لسوريا»، تلاها خروج مئات الآلاف، أيضًا، فى ١٤ مارس، مطالبين بخروج القوات السورية من لبنان، وهو ما تحقق فى أبريل التالى. ومن هنا، تم تشكيل فريقين: فريق «٨ آذار» الموالى لسوريا و«حزب الله»، وفريق «١٤ آذار» المناهض لهما. وآذار، كما لعلك تعرف، هو الاسم السريانى لشهر مارس.
لاحقًا، عاد ميشال عون، من منفاه، كما أشرنا، بعد غياب امتد لـ١٥ سنة، وصار رئيسًا للجمهورية، وخرج سمير جعجع، رئيس حزب «القوات اللبنانية»، من السجن بعفو برلمانى، وقامت ميليشيات «حزب الله»، بملء الفراغ الناتج عن انسحاب القوات السورية، بعد ٣٠ سنة. وبالتدريج، تمكن ذلك الكيان اللبنانى اسمًا أو شكلًا، الإيرانى تمويلًا، ولاءً، وموضوعًا، من السيطرة على الحياة السياسية فى البلاد!
.. وأخيرًا، لا نعتقد أن عاقًلا يمكنه نفى صلة «حزب الله» بإيران أو التشكيك فى ولائه لها. وعلى حد علمنا، لا توجد معادلة منطقية تقر بوجود ميليشيات مسلحة داخل دولة، ممولة وتدين بالولاء المطلق لدولة أخرى. وسواء اتفقت أو اختلفت على إدراج ذلك الكيان على قوائم المنظمات الإرهابية فى دول، عربية وأجنبية، فإن ما لا يمكنك إنكاره هو أن العدالة فى لبنان ستظل غائبة، إلى أن تنتهى الأشهر الستة، التى بدأ عدها منذ ٣١ سنة، مع توقيع وثيقة الوفاق الوطنى «اتفاق الطائف»، والتى كان من المفترض أن يتم خلالها حل جميع الميليشيات المسلحة وتسليم أسلحتها للجيش اللبنانى.