رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هانى شنودة يتذكر «2»: صديقى منير وشُركاه

هانى شنودة
هانى شنودة


وفقًا للسير المتواترة بين أصحابها فإن محمد منير يملك تقريبًا خمسة آباء على المستوى الفنى، أصدق تعبير لتلك الحالة أن مشروع محمد منير الفنى تفرق دمه بين خمسة أسماء كلٌّ منها نُسب إليه الفضل الأكبر فى ميلاده، هؤلاء بالترتيب: عبدالرحيم منصور، هانى شنودة، أحمد منيب، مجدى نجيب، ويحيى خليل.
ترتفع وتنخفض موجات نسب المشروع بين روايات شخص وآخر، مثلًا غذّى الخلاف بين محمد منير ويحيى خليل، والذى تحول إلى تصريحات متبادلة على صفحات الجرائد شعورًا بفضل أكبر ليحيى على منير مقارنةً ببقية الأسماء، ورسخ ذلك النجاح المدوّى لألبوم «شبابيك»، والذى وُضع على غلافه اسم «فرقة يحيى خليل» بجوار اسم منير.
ولكن الأكيد أن لحظة الميلاد لم تكن على يدى يحيى خليل، والمؤكد أيضًا أن يحيى خليل لم يكن بمفرده صاحب اللمسات الموسيقية المدهشة التى شكّلت ملامح ألبوم «شبابيك»، لا سيما أن أصابع عازف البيانو الشاب وقتها فتحى سلامة وزّعت ثلاث أغنيات فى الألبوم، وشارك بقية أعضاء الفرقة فى وضع بصمتهم على التجربة، وهو ما يفسر موقفهم عندما طلب كل منهم وضع اسمه كموزع بجانب الأغنية التى وزعها فى الألبوم التالى «برىء».
المهم أن لدى هانى شنودة قصة ميلاد محمد منير، الذى جاء به عبدالرحيم منصور ليستشير صديقه هانى شنودة فى الطريقة التى سيقدمان بها هذا الصوت الجديد، والذى قد يغيّر شكل الموسيقى المصرية.
منير بدأ رحلته مع الفن قبل لقائى بأربع سنوات تقريبًا، كانت له محاولات مختلفة مع ملحنين آخرين، ولكن التجربة قوبلت برفض المنتجين وعدم توافر فريق كامل من الشعراء والملحنين والموزعين بحماس كافٍ لفرض هذا الشاب النوبى على الساحة الفنية، سأعترف بأننى قبل لقاء منير رفضت العمل مع محمد حمام، الذى قدمه لى عبدالرحيم منصور أيضًا، ولكننى لم أشعر بأى تناغم بين أفكارى وصوته، إلا أن الأمر اختلف مع منير، لسبب مهم، وهو أنه ما زال عجينة ليّنة يمكن تشكيلها وصياغتها وإكسابها روحًا وشخصية مختلفة ومميزة.
بعد هذا العمر الطويل يمكننى القول بضمير مرتاح إننى رويت نبتة منير ورعيتها حتى طرحت هذا المشروع الفنى الذى عرفناه جميعًا، والبقية ممن شاركونى التجربة لم يكونوا معروفين وقتها للجمهور، كانوا عظماء، لا خلاف، ولكنهم كانوا وراء الكواليس، لم يكونوا أصحاب بصمات جريئة، ولم يقلّبوا تربة الموسيقى فيُخرجوا منها كنوزًا كالتى اكتشفتها أنا، أحمد منيب على سبيل المثال لم تكن ألحانه معروفة جماهيريًّا قبل أن تشكلها توزيعاتى وتعرضها فى برواز حديث وأنيق يواكب ذائقة الناس المتطورة، ولكن للأمانة لو هناك أب روحى حقيقى لمحمد منير فهو عبدالرحيم منصور، الذى جاء لى به وصاغ مشروعه الفنى عبر كلماته التى كانت متمردة وسبَّاقة ومستشرفة للمستقبل.
عبدالرحيم صنع من منير صوتًا للمثقفين، خاطب به الشباب الجامعى، والأدباء، والكتاب ونثر بذور شعبيته فى هذا المجتمع الكبير، شكّل من الشاب النوبى الخجول أحيانًا وصاحب الدم الحار فى أحيان أخرى ظاهرة يتحدث عنها الجميع.
بدأنا العمل فى شريط «أمانة يا بحر»، اتّبعت مع منير منهج التحفيظ والتلقين. كان منير يحفظ الكلمات والألحان، ثم يأتى لى لأسمع طريقة غنائه ثم أضع «اللزم» والمقدمات الموسيقية للأغنية.
أتيت فى البداية بعازف دف نوبى، واتفقت مع تحسين يلمظ، عازف البيز جيتار، وهانى الأزهرى، عازف الدرامز، على صياغة إيقاع يمزج بين الآلات الثلاث بينما يصوغ الأورج «هارمونى» متناغمًا مع ذلك المزيج الغريب.
نجحت التجربة، جرّبتها مرة واثنتين وثلاثًا حتى أطمئن إلى هذا الاختراع الذى صنعته، كل من سمع التركيبة الموسيقية أُعجب بها، وقال إن هذا الشكل يمكن تسميته موسيقى الجاز المصرية الحديثة، أنا لم أتوقف أمام المسميات، ولكن ثمة رابطًا بين هذه الموسيقى والجاز الأمريكى حقًّا، فالجاز اخترعه السود فى أمريكا وأصبح موسيقاهم، بينما كانت إيقاعات النوبة شريكة فى تركيبتى الموسيقية، ولكننى خلقت تنويعات أكثر رحابة واتساعًا واحتواءً لأشكال موسيقية أخرى.
هذا على صعيد الموسيقى، أما على مستوى الكلمات، فكانت لى رؤية فى تجربة منير، وهى أن يغنّى كلمات أشمل من الغناء الرومانسى التقليدى، كل المطربين كانوا يغنون للرموش والعينين والشفايف والحب والهجر والخيانة والسهد والسهر إلى آخره، إذن ما المختلف فى منير؟
بالطبع الغناء للناس ومشكلاتهم وحياتهم، كانت هذه نظرتى لتطوير الأغنية المصرية، وهو ما فعلته مع فرقة «المصريين» بعدها، عندما قدمنا الأغنية الاجتماعية فى أول أشرطتنا.
بدأ عبدالرحيم منصور كتابة الأغانى، حتى وصلنا إلى أغنية «أمانة يا بحر» فاقترحت عليه أن يكتب عن الحب المطلق دون توصيفات جسدية حتى تتحول الأغنية إلى أيقونة تخاطب المستمع فى كل الحالات، يمكنك اعتبارها رسالة للوطن أو للأم أو للابنة أو للحبيبة أو للأصدقاء، وتعمدت موسيقيًّا أن أستخدم مؤثرات تعكس معنى الكلمات، حتى إن عبدالرحيم قال لى: «إنت خلّيت الناس تحس بالموج وهو بيبوس خشب المراكب»!
وهكذا كنا مع كل أغنية نُشكل شخصية مطرب يغنى للناس وهمومهم، غنّى للغربة فى «يا بلاد يا غريبة»، ثم فى «غريبة ومش غريبة»، وتناولنا حالة أكثر عمقًا من الاغتراب داخل الوطن فى أغنية «يا عذاب النفس».
لكن الشريط أو الألبوم، كما يسمونه الآن، لم يحقق النجاح المتوقع، كان هذا منطقيًّا لعدم توافر أجهزة الكاسيت، لأننا كنا فى الأمتار الأخيرة من عصر الأسطوانة، لم يكن الناس قد اعتادوا بعد على فكرة شريط الكاسيت، بالإضافة إلى أننا لم نجنح إلى الترفيه، بل إلى التثقيف الموسيقى، وشتان الفارق بين المشروعين، ولكننى وجدت صيغة مشتركة بينهما مع فرقة «المصريين» فى شريطنا الأول «بحبك لا»، الذى دفع نجاحه شركة «سونار» المنتجة لألبومات منير لإعادة طرح «أمانة يا بحر» تحت مسمى «علمونى عنيكى»، مع الإشارة على الغلاف إلى مشاركة هانى شنودة وفرقة «المصريين» فى صناعة الألبوم، ثم طلبوا منى أن نعمل سريعًا على شريط منير الثانى وهو «بنتولد».
هنا ظهر يحيى خليل فى رحلة محمد منير، وذلك عن طريقى أيضًا، عاد يحيى من أمريكا فى هذه الفترة وقمت بضمه إلى فرقة «المصريين» خلال تسجيل شريطنا الثانى «حرية»، وخلال تحضيرات شريط «بنتولد» فوجئت برفض المنتج عاطف منتصر مشاركة فرقة «المصريين» فى شريط منير، وقال لى: شغلك كموزع وملحن مالوش علاقة بالفرقة.. اعمله بعيد عنها!.
بالطبع تفهمت موقف عاطف لأن شركة «سونار» المنتجة لأعمال منير كانت منافسًا لشركته «صوت الحب»، فى هذا الوقت أراد يحيى خليل الانفصال عن فرقتنا، فوجدتها فرصة أن أضمه للعمل فى شريط منير ومعه عازف الجيتار عزيز الناصر.
سجلنا الشريط وحقق نجاحًا كبيرًا، ما زلت أذكر الضجة، التى أحدثتها أغنية «بنتولد»، التى تفسر كيفية تحول الإنسان السوىَّ إلى إرهابى، كلماتها فى الأساس تشير إلى ذلك، فالإنسان يولد صفحة بيضاء نقية ثم يتشكل وفقًا للبيئة المحيطة والمجتمع والتجارب التى يمر بها.
المهم أنه منذ هذا الشريط بدأت خيوط القرب تغزل صداقة يحيى ومنير، الذى كانت حفلاته مرتبطة بفرقة «المصريين»، لأنه لم يكن قد أسس فرقة بعد، كنا نقدم فقرتنا وبعدها فقرة لمنير ونعزف وراءه، حتى تعارضت مواعيد الحفلات بيننا، كنا متعاقدين على حفلات فى الإسكندرية، وهو تعاقد على حفلات فى القاهرة، فاقترحتُ عليه أن يتفق مع يحيى خليل على تكوين فرقة تعزف له، وبالفعل اتفقا، بينما يحيى كان قد قطع شوطًا طويلًا فى تكوين فرقته، وعملا معًا وتوطدت علاقتهما أكثر، كنت سعيدًا بنجاح منير وانتشاره مع يحيى خليل لأننى اعتبرت نجاح منير نجاحًا لى، صوت منير كان قطعة من روحى شكّلتُها وتابعتُ خطواتها، أنا لى فى منير نصيب لا يمكن أن يغفله أحد، ولهذا أتعجب ممن ينسبون مشروع منير إلى يحيى خليل فقط، ربما هو مَن روّج لذلك.. الله أعلم! ولكن الصدام بين يحيى ومنير كان متوقعًا، وهو الصدام التقليدى بين النجومية وشركائها، خصوصًا لو كان كلا الشخصين يرى أنه صاحب النجاح.
أحببت منير كما أحببت عبدالرحيم منصور، وعلاقتنا ظلت ممتدة بعيدًا عن الفن، أذكر أن منير بعد فترة من العمل مع يحيى خليل عاد لى وطلب أن ينضم لفرقة «المصريين» ويغنى معنا، رفضت تمامًا وقلت له: أنت نجم الآن.. يجب أن تكون لك فرقتك التى تحمل اسمك.
منير فى بداياته كان متحمسًا جدًّا، متعطشًا للنجاح والشهرة والغناء والتعبير عن أفكاره التى كانت فى الأصل أفكارنا، لأنه شاب صغير تشبع بما يقوله عبدالرحيم منصور وصلاح جاهين، تشكلت شخصيته فى صالونات منزليهما وجلسات الطرب والدردشة فى الفن والموسيقى والسياسة أحيانًا، حتى هيئة منير وملابسه التى كوّنت جزءًا كبيرًا من شخصيته الفنية تشكلت بنصائحنا.
أذكر أنه فى إحدى المرات تعاقد على حفل فى كازينو «لاروند»، وكان صاحبه يُدعى «فتلة»، المهم أن فتلة اقترح على منير أن يطل على جمهور الحفل مرتديًا بدلة توكسيدو وبابيون، عاد لى منير حائرًا: هل أفعل ذلك؟
قلت له: لا.. إياك أن تتخلى عن شخصيتك، ملابسك وشعرك وشكلك جزء من النجاح الذى تحققه يومًا بعد الآخر، من يريدك فليقبل بك كما أنت.. لأنك حالة لا تشبه المطربين الآخرين.
مرت السنوات، وظلت ألحانى محفورة فى قلب منير، يعود لى من حين لآخر، فنقدم معًا شيئًا مختلفًا مثل «حاضر يا زهر»، التى كانت فى الأساس أغنية ضمن مسرحية اسمها «كمبورة» بطولة سيد زيان، منير استمع إليها وأعجبته، فغيّرنا بعض الكلمات، وغناها وحققت نجاحًا كبيرًا.
كثيرون من شركاء التجربة الأوائل غضبوا من منير واتهموه بإنكار أفضالهم، ولكننى لم أكتفِ بهذه الزاوية من الصورة، فبنظرة موضوعية لا تخلو من الإنصاف طبيعى جدًّا أن يتعرض شاب فى مثل عمره لهزات تفقده الاتِّزان بفعل الأضواء والشهرة.
شاب جاء من النوبة وأصبح فى سنوات قليلة نجم مصر الأول، والشباب يتهافتون على أغانيه والوجوه الجديدة فى الأوساط الثقافية المصرية تراه صوتها، بينما يورّطه الإعلام والصحافة فى معارك تفوق إدراكه وقدرته على الاحتمال، طبيعى جدًّا أن يهتز ويختلف ويناوش، أو يصيبه الغرور، ولكننا أنا وهو ظللنا متمسكين بالمساحة الإنسانية والصداقة والمحبة التى كانت رباطًا متينًا أمام هذه الأمواج العنيفة».