رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل شىء عن «احتجاجات يوليو» فى إسرائيل

كورونا فى إسرائيل
كورونا فى إسرائيل



نشبت موجة احتجاجات كبيرة فى إسرائيل خلال الأيام الأخيرة، أعادت إلى الأذهان التظاهرات الضخمة التى حدثت فى يوليو عام ٢٠١١. وشهد ميدان رابين فى تل أبيب تظاهرة ضخمة عبر فيها الإسرائيليون عن غضبهم من جراء الأزمة الاقتصادية التى حدثت بسبب تداعيات انتشار فيروس كورونا، خاصة بعد الموجة الثانية التى ضربت إسرائيل، وأدت إلى الدخول فى إغلاق جزئى، وهو ما أثار حفيظة أصحاب الأعمال الخاصة المتضررين من الإغلاق.
«الدستور» تستعرض فى السطور التالية شكل الحراك الاجتماعى فى تل أبيب وأسبابه ومطالبه وطرق تعامل الحكومة معه.


عدد المتظاهرين يقدر بـ20 ألفًا.. حضور طاغٍ للشباب.. ومشاركة محدودة لكبار السن

من الصعب أن نفهم كيف أن الصحف والمواقع الإلكترونية ومحطات الراديو وقنوات التليفزيون كلها نشرت معًا أن هناك عشرة آلاف متظاهر فى الميدان؟.. من أين جاءوا بهذا الرقم؟.. الشرطة لم تذكر عدد المشاركين فى التظاهرات، ولكن الرقم جاء من صحفى فى محطة تليفزيونية كبيرة عندما سأل ضابطًا كبيرًا فى شرطة الميدان، وهذا الأخير رمى برقم «عشرة آلاف» من دون أن يفكر كثيرًا. لكن فى اللحظة التى نُشر فيها الرقم، تبنته وسائل الإعلام الأُخرى كلها، رغم أن الرقم لم يكن دقيقًا، ولكن هناك تقارير تفيد بأن حضور المتظاهرين يصل إلى ذروته فى المساء.
هناك من يقدر الرقم بأنه كان على الأقل ٢٠ ألفًا، والتقديرات تشير إلى أن وجود ٢٠ ألف شخص على الأقل يدل على أن هناك عشرات الآلاف الأُخرى كانت ستأتى إلى الميدان لولا الخوف من «كورونا»، أما الفئة العمرية التى طغت على التظاهرات، فالغالبية من الشباب مع عدد قليل جدًا من كبار السن.
وكانت هناك أمور جديدة فى هذه التظاهرات، لأول مرة تظاهر أنصار الليكود إلى جانب ناخبى حركة ميرتس اليسارية، وكذلك ظهر غالبية الأشخاص غير المعنيين بالسياسية، وكان هناك حضور واضح لأبناء الطبقة الوسطى التى تعانى من الأزمة الاقتصادية بسبب الفيروس.
الحديث يدور عن تظاهرات مهمة وكبيرة، ونتيجة لها أدرك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أنه فى ورطة، وأن الوضع قد يبدو مختلفًا عما سبق، ففى الانتخابات الماضية كان هناك ناخبون لم يستسيغوا تهم الفساد والتدخل فى شئون القضاء، لكنهم صوتوا له، لأن الوضع الاقتصادى كان جيدًا، والمطاعم مزدحمة بالزبائن، وشراء السيارات بلغ الذروة، كذلك السفر إلى الخارج. لكن فى اللحظة التى اختفى فيها هذا كله بدا أن الناخبين سيغيرون رأيهم.
ومن أبرز المشاهد الأخرى كان الظهور المميز للنساء، فأغلبية المتحدثين فى المنابر بالميدان كانت من النساء، نساء من صاحبات الأعمال المستقلة تحدثن أمام الجماهير عن وضعهن الصعب بعد فقدانهن أعمالهن.

لا أجندات سياسية واختفاء لافت للمتدينين


كل فئات الإسرائيليين كانت فى الاحتجاجات من أصحاب المصالح التجارية التى انهارت، والعاطلين عن العمل، خاصة فى مجال الترفيه، والموسيقيين، ورجال السياحة، وظهرت الاحتجاجات دون المتدينين أو العرب.
والسمة البارزة فى المتظاهرين أنهم لم يحبوا تصنيفهم كيمين أو يسار، ولا يهمهم الضم، لا تهمهم دولة فلسطينية، لا تهمهم ادعاءات «بيبى» وأنصاره ضد جهاز القضاء، حتى التهديد الإيرانى لا يشغل بالهم، هم يعتبرون كل هذه القضايا مناورات لتحويل الانتباه عن الضائقة الحقيقية الناجمة عن أزمة اقتصادية وضد سلطة يرون أنها لا تحرص فعلًا على مواطنيها.
حتى خطر الإصابة بعدوى «كورونا» تجاهلوه، ليس هناك مَن بادر إلى هذا الاحتجاج، ويمكن وصفه بأنه «غير سياسى»، يتمحور حول شىء واحد هو الأزمة الاقتصادية.
المزاج العام فى إسرائيل غاضب، لأنهم يدفعون ضرائب ضخمة، ضريبة دخل، ضريبة شراء، ضريبة بيع، ضريبة وقود، ضريبة سيارات، لكن مع أزمة «كورونا» شعر كثيرون بأنهم لم يحصلوا فى المقابل إلا على القليل.
كالعادة، عندما تحدث تظاهرة وتكون السلطة محورها، فورًا تخرج الكلمة السحرية «يساريون»، وتم وصم المتظاهرين بأنهم خونة ويساريون يريدون تحطيم «نتنياهو».

نتنياهو يلجأ لخطة إنعاش اقتصادى بـ90 مليار شيكل

بنيامين نتنياهو بالنسبة إلى الإسرائيليين هو ساحر سياسى، أقام حكمه لإسرائيل فى الـ١١ سنة الأخيرة على أساس من السحر المزدوج: الاستقرار والتحريض، فمنح «نتنياهو» الإسرائيليين ثلاثة أمور مهمة حافظت على تثبيت مكانته، هى الاستقرار استراتيجيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، ومن جهة أخرى استطاع السيطرة على جموع المواطنين عن طريق تحريض الفئات على بعضها البعض. اليمين على اليسار، وتحريضه ضد مؤسسات الدولة، مثل الشرطة والقضاء والإعلام، أو اتهامهم بأنهم يدبرون المؤامرات ضده على خلفية قضايا الفساد التى اتهم فيها.
ولهذا كان لدى الإسرائيليين شعور مزدوج، وهو الإحساس بأن الحياة رائعة. فلا حروب، ولا قتل جماعى، فهم يشترون السيارات، يأكلون فى المطاعم، يسافرون فى إجازات الصيف إلى اليونان وقبرص، وفى الوقت نفسه لديهم الإحساس بأنه يوجد عدو داخلى خطير وهو «اليساريون، الصحفيون، القانونيون».
وهكذا ولد الإحساس لدى الأغلبية بأن «نتنياهو» يحمى الشعب من النخب، يحميهم ويمنحهم الحياة الرائعة، هذه المعادلة كانت وراء استقرار حكمه طوال السنوات الماضية، وكانت أيضًا خلف تصويت الناخبين له على مدار السنوات الماضية.
الموجة الأولى من «كورونا» عظمت من سحر «نتنياهو»، خاصة عندما هبطت أعداد المصابين إلى أقل من ٥٠ إصابة فى اليوم الواحد، فى الوقت الذى كانت فيه ذروة الإصابات مشتعلة فى دول العالم، مرة أخرى تبين للإسرائيليين أن «نتنياهو» يعرف كيف يشخص التهديدات بالشكل الأفضل وقبل كل الآخرين، وهو ما حقق له ٤٠ مقعدًا فى الاستطلاعات. وكان الإسرائيليون ينظرون له على أنه لا يوجد أفضل منه.
ولكن الموجة الثانية من «كورونا»- التى ضربت إسرائيل خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، بدأت تضرب «الساحر»، بعدما ارتفعت الإصابات إلى أكثر من ١٠٠٠ إصابة فى اليوم الواحد، مع وجود تقريبًا مليون عاطل عن العمل.
بدأ الاستقرار- الذى كان السمة المميزة لعهده- يهتز، وبالتالى بدأ الإسرائيليون يشعرون بالغضب، وهو ما دفعهم لميدان رابين للاحتجاج، ثم فاجأ «نتنياهو» الجميع قبل أيام بنشر الخطة الاقتصادية التى تقضى بتوزيع منح مالية على الإسرائيليين.
وتتضمن الخطة منحة فورية بمبلغ ٧.٥٠٠ شيكل للمستقلين، كما أن الأعمال التجارية الصغيرة ذات الدورة المالية حتى ٣٠٠ ألف شيكل ستحصل على منحة حتى ٦ آلاف شيكل مرة كل شهرين وأعمال تجارية أكبر ستحصل حتى على ٥٠٠ ألف شيكل مرة كل شهرين.
وتبلغ قيمة الخطة نحو ٩٠ مليار شيكل- ٦٠ من أصل ميزانية الدولة، والباقى ائتمان، ولكن كما يبدو أن الإسرائيليين ما زالوا فى الشوارع.
«نتنياهو» تورط أمام جمهوره، وأصبح هو المسئول عن التقصير فى مواجهة «كورونا»، لأنه منذ اللحظة الأولى تسلم زمام الأمور وأدار الأزمة حصريًا من دون تفويض صلاحيات وإشراك آخرين فى القرارات، ومن دون شفافية، ومن وراء ظهر الكنيست والحكومة، ومن خلال تضخيم حسن تدبيره وإنجازاته كل مساء فى بث مباشر، وتباهى بـأن زعماء من العالم كله يتصلون به ليتعلموا منه كيف يتغلبون على الوباء، وعندما عادت الموجة الثانية لضرب إسرائيل، تراجع «نتنياهو» عن تقديم نفسه كمسئول أول عن إدارة الأزمة.