رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفساد الذي يغلف حرب المياة التركية


طوال الاسابيع الماضية؛ توالت الصور والأنباء من العراق وسوريا حول انخفاض منسوب المياة في كلا من نهري دجلة والفرات بصورة لافتة، كان ذلك خبرا شبه رئيسيا على وكالات الأنباء للدولتين، فضلا عن مئات الحسابات الشخصية للمواطنين السوريين والعراقيين على فضاء "السوشيال ميديا" الواسع، الذي سمح بالطبع لهؤلاء التحرر من الضوابط والتحفظات الدبلوماسية الرسمية، وتوجيه الاتهام بشكل مباشر إلى تركيا باعتباره المتهم الرئيسي فيما يعانونه من "شح" مائي، بسبب السدود التي استمرت تركيا ببنائها طوال السنوات العشر الماضية، مستغلة فترة الاضطرابات العنيفة التي دارت في كلتا الدولتين، والتي كان آخرها سد "إليسو" على نهر دجلة، حيث بدأ توليد الكهرباء من السد في مايو الماضي.
تلك الموجة المحمومة لبناء السدود التي قامت بها تركيا، مثلت استثمارا نموذجيا لها لفترة اضطراب غير مسبوقة ألمت بالدولتين العربيتين الكبيرتين، حيث لم تكن مصادفة ـ على الإطلاق ـ حجم الانخراط التركي في صناعة تلك الفوضى المسلحة، والتهديد العميق لكيان كلتا الدولتين على نحو مقارب لعملية ممنهجة لهدم قدراتهما بالصورة التي تابعها الجميع خلال العقد الفائت. في الوقت الذي ظلت المزاعم التركية تتحدث عن بناء السدود باعتبار أنها تهدف لتأمين حاجة تركيا من الكهرباء، لكن الحقيقة التي تخفيها الحكومة التركية ولا تريد بأي صورة الاعتراف بها، هي أنها لا تستهلك سوى 65 % من طاقة إنتاج الكهرباء الفعلية من هذه السدود، التي بلغت نهاية 2019 ما إجماله (90 ألف ميجاوات)، وذلك قبل أن يبدأ سد "إليسو" في الدخول على قدرات الإنتاج، حيث تبلغ طاقته الإنتاجية وحده ( 1200 ميجاوات). لذلك بدت ذريعة توليد الكهرباء غير مقنعة لأحد لا في الداخل التركي، ولا لدى المواطنين العراقيين والسوريين الذين داهمهم الجفاف بشكل مفاجئ، وأصبحوا منذ سنوات أمام عبء إضافي تمثل في التكيف مع هذا المتغير الذي ضرب أنشطتهم المعيشية في مقتل.
الداخل التركي الذي لم تنطل عليه الخطابات الإعلامية وتصريحات المسؤلين عن هذا الأمر، يدرك أن إصرار حكومة "العدالة والتنمية" على وجه التحديد على التوسع في بناء السدود، يأتي في المقام الأول من أجل خدمة المقربين من القيادة التركية الحالية، خاصة لمن يمتلكون الشركات الكبرى في قطاعي الإنشاءات والطاقة، وهما المجالان المعلوم منذ سنوات أنهما الأكثر فسادا في تركيا، كما أنهما وفق القوانين التي حرص الحزب فور توليه السلطة على تمريرها، يحظيان بتسهيلات مصرفية غير مسبوقة ولا متاحة لأنشطة أخرى عديدة، حتى أصبح من المشاع بصورة كبيرة في مجال الأعمال التركية، أنه يكفيك مجرد الإعلان عن البدء في نشاط مرتبط بالإنشاءات أو الطاقة، مع ضمانة رعاية أحد قيادات "حزب العدالة والتنمية" أو من دوائر الحكم المقربة من الرئيس أردوغان، حتى تنفتح أمامك أبواب الائتمان البنكي غير المحدود والكفيل بصناعة أثرياء الفساد خلال فترات وجيزة. هذه الصناعة لم تترك لترعى وتنمو في العراء، فهي أهم وأدق كثيرا لأردوغان شخصيا لربط هؤلاء الأثرياء بدوائر حكمه، وأن يظلوا ملك يمينه هو وحده حيث لم يقف الأمر عند حد ضمانة أنصبة عائلته من هذا الثراء "المصنوع"، بل أيضا من أجل تأسيس محافظ مالية خارج نطاق المحاسبة للدولة أو الحزب، بغية الإنفاق على الأنشطة السوداء "غير الشرعية" التي يمارسها خارج الدولة التركية. هذا من المعلوم في سوق الأعمال التركي بالضرورة، حيث تابع كل من في داخل هذا السوق التجاري والمصرفي الضخم، رحلة الصعود الصاروخي للطفل المعجزة "بيرات البيرق" صهر أردوغان شخصيا، فلم تكن تلك الصناعة ليؤتمن عليها شخص أبعد من ذلك، حتى وإن كان من أعضاء الحزب أو من المقربين الاعتياديين، لهذا وضع هذا النشاط برمته تحت يد ورعاية "البيرق" الذي يبلغ من العمر 42 عاما.
"بيرات البيرق" الذي عمل بالصحافة لفترة، قبل أن ينتقل منها ليصير كادرا سياسيا في "حزب الرفاه" التركي، قبل أن يرحل إلى الولايات المتحدة ليعين بمنصب المدير المالي لمكتب شركة "تشاليك القابضة" في نيويورك، وهناك توصل لـ"إسراء أردوغان" التي كانت تدرس في جامعة "بيركلي"، ليتزوجها ويبدأ رحلة صعوده السريع عقب عودته إلى تركيا مباشرة. أصبح البيرق عضوا في البرلمان مع حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في انتخابات 2015، ليتعين بعدها مباشرة وزيرا للطاقة والموارد الطبيعية في حكومة أحمد داود أوغلو، كما ترأس في الوقت نفسه بعض مشاريع الطاقة المهمة لتشاليك. وفي 2018 جرى اعادة انتخابه في البرلمان مع تعيينه وزيرا للخزانة والمالية ضمن حكومة رجب أردوغان، رغم أن فترة ولايته كوزير للطاقة شهدت بداية انقضاضه على مليارات البنوك، من أجل قروض وائتمان عمليات الاستحواذ والتوسع الكبيرة التي قام بها في سوق الشركات العاملة في قطاع الطاقة والوقود، والتي صمتت عنها الحكومة التركية بالرغم من شيوع الاسهام الفادح للقطاع في أزمة العملة والديون التي افجرت في عام 2018. والتي كانت ملابستها تحتاج إلى تسوية وتغطية بصورة أو بأخرى، فلم يكن هناك بد من تعيين "بيرات البيرق" وزيرا له صلاحيات القيام بتلك التسوية، التي كانت على شفا الانكشاف الكامل لمنظومة الفساد التي بالتبعية ستطال أردوغان نفسه. ليعلن في يوليو 2019 وضمن الخطة الإنقاذية التي وضعها وزير المالية الجديد البيرق، أن هناك توجيه قد صدر من الوزارة إلى المصارف الخاصة التركية، بإعادة هيكلة وشطب ديون متعثرة تبلغ قيمتها (20 مليار دولار) مترتبة ومستحقة على شركات الإنشاءات والطاقة!
منظومة فساد كاملة ومحكمة، يديرها حزب "العدالة والتنمية" التركي وتحظى بأعلى رعاية من رأس الدولة ورئيس الحكومة والحزب، وليس لديها نية تراجع عن الرغبة في الهيمنة على كلا من سوريا والعراق، أو بأقل تقدير تدمير إرادتهما السياسية في التصدي للتغول العسكري التركي على أراضي كلتا الدولتين، حتى وإن جرى استخدام "سلاح المياة" غير الشرعي، والمغلف بفساد هائل يضمن حصد ملايين الدولارات السوداء للقائمين عليه.