رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قانون قيصر «1»


فى زحمة الأحداث الخطيرة المُتتابعة، سقط من دائرة الاهتمام العام، وفى وسائل الإعلام الداخلية والخارجية أيضًا، إلقاء الضوء الواجب على أحد أهم وأخطر التطورات الأخيرة فى المُحيط العربى، والتى ستكون لها نتائج بالغة الخطورة على مستقبل منطقتنا ومُجمل أوضاعها، تُزيدها بؤسًا ودمارًا.
فقد أعلنت الولايات المتحدة، فى مُنتصف شهر يونيو الماضى، عن تفعيل قانون سبق وأقرّه الكونجرس الأمريكى أواخر عام ٢٠١٩، باتفاق الحزبين: الجمهورى والديمقراطى، وتوقيع «دونالد ترامب» عليه، والبدء فى اتخاذ الإجراءات لتحويله إلى «قانونٍ جارٍ»، أى دخوله حيِّز التنفيذ، وهو القانون المُسمَّى: «قانون قيصر».
ويُطلق هذا الاسم على حزمة من التشريعات والإجراءات الموجَّهة لفرض مجموعة جديدة وصارمة من العقوبات وأشكال العزل السياسى والحصار الاقتصادى على سوريا وحكومتها، وأفرادها وشركاتها، وعلى عددٍ من «الكيانات» الإيرانية والروسية المتعاونة مع سوريا، لمعاقبتهم على ادعاءات مُصطنعة تمثلت فى صور فوتوغرافية مزعومة، سرّبها شخصٌ وهمى، أُطلق عليه اسم «قيصر»، بين عامى ٢٠١١، و٢٠١٤، تعرض لـ«ضحايا التعذيب فى سوريا»، أى عناصر الجماعات الإرهابية وعملاء المخابرات الأمريكية والتركية والقطرية، ومقاتلى «القاعدة»، و«داعش»، و«الإخوان»، وغيرهم من عصابات القتل والتخريب، الذين نقلت تركيا آلافًا منهم إلى ليبيا مؤخرًا.
وقد استخدمت الإدارة الأمريكية هذه الـقرينة الدامغة المُفبركة، وأقامت الدنيا ولم تُقعدها، دفاعًا عن هؤلاء «الضحايا الأبرياء»، حتى إنها عرضت هذه الصور فى «متحف ذكرى الهولوكوست» بالولايات المُتحدة والأمم المتحدة، لكى يتم الربط، فى الذاكرة الغربية والعالمية، بين سوريا وألمانيا النازية من جهة، وبين «أدولف هتلر» و«بشّار الأسد» من جهة أخرى، ومن ثم تترسَّخ فكرة وجوب حشد القوى العالمية لمحاربة «الأسد»، على نحو ما حدث فى مواجهة «هتلر»، وهزيمة بلاده وتحطيم ما تبقّى من قُدراتها العسكرية والاقتصادية، بل والمعنوية، وتقسيمها واحتلالها، على نحو ما حدث مع ألمانيا الهتلرية.
تُعيد هذه التداعيات إلى الأذهان والضمائر ما جرى بالتفاصيل أمام أعيُننا وأعيُن العالم فى وقائع حصار واحتلال وتحطيم قدرات دولة العراق، وتدمير بنيتها الأساسية، وتفريق جيشها، وتمزيق أوصالها، وتفتيت وحدتها، وإعدام رئيسها، ونهب تريليونات الدولارات من بترولها وثرواتها، على النحو الذى كان معروضًا ونقلته الـ«C.N.N»، بالصوت والصورة، بثًَّا مُباشرًا إلى شتى أرجاء المعمورة.
وقد قُيِّضَ لى زيارة العراق قبل عام ٢٠٠٣، ضمن وفود مصرية وعربية عديدة، ومع عدد من الأطباء والمُعالجين الشُجعان، ذهبوا إلى العراق تضامنًا مع مواطنيه ودعمًا لصمودهم، قبيل الحرب، وكسرًا للحصار الجائر المفروض على الدولة والشعب، تحت مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل تُهدد البشرية والبلاد المُحيطة، ويومها قدّم «كولن باول»، وزير الحرب الأمريكى، صورًا شبيهة تتضمن ما زُعم أنه مُنشآت لتصنيع هذه الأسلحة، مُحرضًا العالم للهجوم على «الطاغية العراقى صدّام وتحطيم قواته»، قبل أن يُفجِّر العالم ويحوله إلى أشلاء مُهترئة.
وفى هذه الزيارات عاينا بأنفسنا الآثار البشعة للحصار، والدمار الذى ألحقته «الحضارة» الأمريكية والغربية، وللأسف بتحريض ومساندة بعض الأطراف العربية، بحياة ملايين المواطنين العراقيين الأبرياء، الذين عانوا من الجوع والمسغبة، ومن شُح الغذاء والكساء والدواء، ومن فقدان مستلزمات الحد الأدنى الضرورى للبقاء على قيد الحياة، ومن تلوث مياه الشرب والهواء باليورانيوم الذى أُلقيت قذائفه بآلاف الأطنان على شعب العراق دون أى جريرة ارتكبها.
والأدهى ما شاهدته بأم عينى، وظلت مشاهده تؤرقنى فى منامى فترة طويلة، حين زُرنا «ملجأ العامرية»، الذى كان يؤوى نحو خمسة آلاف من الأطفال الأبرياء، بهدف حمايتهم من قصف الطائرات الأمريكية المُغيرة، فتعمَّدت الطائرات أن تضربه بنوع خاص من الصواريخ اخترق سقفه وجدرانه، وأدى تفريغ الهواء وحرارة الانفجار والحرائق التى نجمت عنه إلى تمزق لحم الأطفال الأبرياء، واحتراقهم، والتصاق أجزاء من أجسادهم البريئة ومُقل عيونهم بالجدران المُتهالكة للملجأ، فى مشهد بشع من المُستحيل نسيانه أو غُفرانه.
ثم إنه من الواجب استذكار أنه بعد أن تم للقوات الأمريكية غزو واحتلال وتدمير واغتصاب العراق وثرواته، أعلن القتلة الأمريكيون والبريطانيون، ومن لف لفهم، بدم بارد، عن أن كل القرائن التى استُخدمت كذريعة للعدوان والخراب المُقيم الذى حاق بشعب شقيق طالما أحسن وفادة الملايين من العاملين المصريين، وحفظ لهم كرامتهم وكبرياءهم- كانت مفبركة عن بكرة أبيها، ولا ظل لها من حقيقة أو واقع.