رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدود وإشارات التلاعب التركى بروسيا


فى وضح نهار الثلاثاء، استُهدفت «دورية مشتركة» روسية تركية على الطريق الدولى «اللاذقية- حلب» المعروف بـ«M4»، بسيارة مفخخة زرعت على جانب الطريق، وجرى تفجيرها عن بُعد لحظة وصول الآليات العسكرية فى مقابل مكان السيارة.
أسفر التفجير عن وقوع إصابات فى كل من العسكريين الروس والأتراك، وكلاهما قام بإخلاء الجرحى سريعًا إلى النقاط الطبية القريبة، حيث نقل الجنود الروس على الفور إلى «قاعدة حميميم»، فى حين نقل العسكريون الأتراك إلى مشفى ميدانى تابع للجيش التركى بالقرب من منطقة التفجير على الأراضى السورية.
جرى ذلك على عجل قبل أن يقوم الطيران الروسى بشن مجموعة من الغارات الانتقامية، استهدفت قرى بريف إدلب وريف اللاذقية فى الوقت الذى صبت فيه نيران مدفعيتها على منطقة أريحا وأطرافها، غارات تعكس حجم الشعور بالإهانة، خاصة وهى تطلق على مناطق لمدنيين عزل، لكن روسيا لم تأبه لذلك بقدر اهتمامها بالانتقام من تلك المناطق، التى ظنت للوهلة الأولى أن التخطيط وتنفيذ هذه العملية لا بد أن يكونا قد جريا بإحدى تلك المناطق.
هذه المنطقة تخضع لاتفاق جرى توقيعه بين الرئيس التركى رجب أردوغان والروسى فلاديمير بوتين، فى الخامس من مارس الماضى، نص على إنشاء «ممر آمن» على طريق اللاذقية- حلب.. وتضمن الاتفاق تسيير «دوريات مشتركة» روسية- تركية على الطريق، بين بلدتى ترنبة غربى سراقب «شرقى إدلب» وعين حور بريف «إدلب الغربى»، على أن تكون المناطق الجنوبية للطريق الدولى من الممر الآمن تحت إشراف الروس، وشماله تحت الإشراف التركى.
ولم تجد روسيا غضاضة فى الموافقة على هذا العمل المشترك مع الجانب التركى، بل عدت ذلك بمثابة اختراق ناجح توهمت أنها قامت به فى جبهة قوات محور الغرب الذى تقوده الولايات المتحدة.. وبعد ساعات من العملية أدان المركز الروسى للمصالحة فى سوريا تعرض الدورية الروسية التركية المشتركة فى إدلب للاستهداف من قِبل «مسلحى أدلب»، كما أعلن عن توقف الدوريات المشتركة فى الوقت الحالى، لحين استجلاء طبيعة العملية و«الجهة» التى تقف خلفها.
طوال يوم الثلاثاء وخلال العمليات الروسية الانتقامية، كان المشهد على الأرض مثيرًا، لتعاون العسكريين الروس مع الجيش التركى فى إخلاء المعدات المتضررة وفى اجتماعات ميدانية بالجوار مع عناصر الاستخبارات العسكرية التركية، كى تحدد ما إذا كانت «هيئة تحرير الشام» هى من تقف خلف الهجوم، أم أن تنظيم «حراس الدين» والفصائل الموالية له هم الذين خططوا ونفذوا تلك العملية.
ما نُقل إلى الجانب الروسى من قِبل الأتراك هو استبعاد أن يكون لـ«هيئة تحرير الشام» أى يد فى ذلك التفجير، مرجعين ذلك إلى أن الهيئة ليست من مصلحتها حاليًا إغضاب تركيا أو زيادة التوتر فى تلك المنطقة، أما غاية تنظيم «حراس الدين» فهو تخريب الاتفاق المبرم بين روسيا وتركيا بخصوص منطقة «إدلب».
ليس المثير هنا هو تلك المعلومات بذاتها، فأى عنصر محلى ممن تقلبوا بين الفصائل المسلحة خلال السنوات الماضية فى سوريا يستطيع بسهولة فك «شفرة» عملية التفجير وتحديد بصمات التنظيم الذى يقف خلفها، بل ربما يذهب لأبعد من ذلك، حيث يمكنه قراءة الرسائل المقصود إنفاذها من العملية.
لهذا يظل الأغرب هو هذا التلاعب التركى المفضوح بالعسكريين الروس، فلم يكتف الأتراك بتحريك أحد تنظيماتهم للقيام بعملية مثل عشرات العمليات التى جرت من قبل من أجل صفع الروس على قارعة الطريق وإرغامهم على التراجع المؤقت عن العمل المشترك وعن هذه المنطقة، والاكتفاء حفظًا لماء الوجه باستخدام القوة الباطشة متمثلة فى الغارات الجوية والقصف المدفعى.
بل ذهب الأتراك إلى إرغام العسكريين الروس على تنسيق العمل الاستخباراتى معهم، حتى بدا المشهد فى تلك المنطقة وكأنّ هناك حليفين يتحركان معًا، ليس هناك تنافس بينهما بقدر ما يظل التنسيق واقتسام المصالح والمخاطر هما الأبرز والحاضر على الدوام.
من وصفتهم روسيا فى بياناتها الرسمية الصادرة تعليقًا على العملية بـ«مسلحى إدلب»، العالم أجمع يعلم أنهم «الرديف الإرهابى» لتركيا على الأراضى السورية، بل وجلس الطرف التركى مع الروس والإيرانيين فى أستانا وسوتشى ليتحدث باسمهم ويتفاوض من أجل تأمين وجودهم ومصالحهم. وهناك ما هو أبعد حين شارك البعض منهم، المعلومون أيضًا، مع الجيش التركى، فى العمليات العسكرية التى احتلت الأراضى السورية «غصن الزيتون» و«درع الفرات» و«نبع السلام»، وجرى تثبيتهم فى النقاط العسكرية التى أقامتها تركيا فى الشمال السورى.. فلماذا يبدو الروس وكأنهم يغافلون أنفسهم بأنفسهم فى مشهد البحث عن الجانى؟، ولماذا يقبلون فيما يشبه الطواعية بتلك الإهانة على الأرض التى يدعون أنهم يمتلكون القرارين السياسى والعسكرى فيها، حسب ادعائهم فى أكثر من مناسبة، هل هذا وفق التصور الروسى ما يحتم عليهم ابتلاع الإهانات فى مقابل ضمان التنسيق مع الجانب التركى؟.. هناك من يجيب عن هذه التساؤلات، بأن الروس مدركون تمامًا أن الأتراك قادرون على تحويل الإقامة الروسية فى سوريا إلى جحيم يومى، فضلًا عن اليقين الروسى بأن تحقيق مصالحهم الاستراتيجية لن يمر إلا عبر السماح التركى لها، فيما تنظر موسكو إلى أن حجم ما تحققه من إفادة لا يقارن بتحمل التلاعب التركى، وبعض الخشونة بين الحين والآخر.
هذه البراجماتية الروسية قد تبدو مفهومة بعض الشىء فى سوريا، وإن ظلت هناك مسارات مختلفة كان يمكن لموسكو السير عليها تعفيها من هذا التلاعب التركى، لكنها ارتضت ذلك واعتبرته ثمنًا يلزم سداده، فى الوقت الذى تعوض فيه كرامتها المهدرة بمزيد من التغول على نظام الرئيس الأسد، كنوع من الترميم النفسى، رغم أن الأخير هو صاحب الغطاء الشرعى الوحيد لهذه المعادلة الاستراتيجية الروسية برمتها.
هذا عن سوريا والحديث والمزالق فيها، بأطول مما تحتمله المساحة اليوم.. لكن يبقى المشهد الليبى الجديد وما يحمله من مستجدات، طارحًا تساؤلات عديدة فيما يخص حجم التلاعب التركى بالطرف الروسى هناك، وتأثيره الذى أودى بالمعادلات الأمنية الليبية الهشة إلى المجهول، الذى يحمل نذر فصل جديد نتناوله الأسبوع المقبل بمشيئة الله.