رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا نكتب؟


نحن نتنفس من دون حاجة إلى الوعى بأهمية التنفس أو دوره، نحن ببساطة نتنفس من دون التفكير فى جدوى ذلك أو ضرورته أو منافعه.. لكن الكتابة تسأل صاحبها باستمرار عن دوافعه إلى الكتابة وتستفسر منه دومًا: لماذا تكتب؟ وما الذى تجنيه من وراء ذلك؟ وهل لهذا كله فائدة.. أى فائدة؟ إنها ليست التنفس.
ومع أن السؤال قديم إلا أنه يمسك بخناق الكاتب من وقت لآخر، ولنتفق بداية على أن معظم الأدباء لا يجنون ربحًا يذكر من أعمالهم، ومن ثم فإن الدافع للكتابة ليس المال، بل ولا حتى الشهرة، لأن أى راقصة أو ممثلة أو لاعب كرة أكثر شهرة بملايين المرات من معظم الأدباء مجتمعين، وقد لاحظ ذلك توفيق الحكيم حين قال: «انتقلنا من عصر القلم إلى عصر القدم».
لماذا إذن نكتب؟.. أتساءل لأننى أتوقف فى لحظات وأفكر فى أن معظم الكُتاب يشبهون إنسانًا يقف فى الخلاء وبيده مسدس يصوّب منه ويطلق النار.. لكن بلا هدف أمامه، وتطيش طلقاته يمينًا أو يسارًا أو فوق أو تحت، لكنها لا تصيب أحدًا أو شيئًا.. نحن نطلق أعمالنا الأدبية، مقالاتنا، أبحاثنا فى الهواء، ولا نلمس أى رد فعل، هل تركت أثرًا فى حجر أو بشر أو عقل أو روح؟ لا ندرى، فلماذا نكتب إذن؟.. ربما تكون الكاتبة الأمريكية جويس كارول أوتس على حق حين تقول: «الأدب كله والفن كله ينبعان من أمل التواصل مع الآخرين».. هل هى الرغبة فى التواصل أو التعارف الروحى كما قال ليف تولستوى؟.
وسنجد أن كاتبًا عظيمًا مثل نجيب محفوظ لم يستطع أن يجيب عن ذلك السؤال بدقة، واكتفى بالقول إن أسباب ذلك النشاط غامضة حين قال: «الكتابة مثل أى نشاط يقوم به الإنسان، وربما كانت أسباب هذا النشاط غامضة، مثل اللعب أو الرحلات أو الفن أو الكتابة الإبداعية».. ويؤكد الروائى السودانى الشهير الطيب صالح غموض دوافع الكتابة حين يصرح بقوله: «أجدنى ميالًا إلى القول إنى لا أعرف بالضبط لماذا أكتب»!
وعندما يفسر جابرييل جارسيا ماركيز الكتابة بقوله: «أكتب لكى يحبنى أصدقائى أكثر»، فلا ينبغى أخذ ذلك إلا من باب الطرافة والمودة التى يحملها ماركيز للعالم. البعض، وهم قلة، مثل مكسيم جوركى وإرسكين كالدويل وجاك لندن، ربطوا دوافع الكتابة بالرغبة فى تغيير الواقع الاجتماعى، ويجسد تلك الرؤية جورج أمادو، الروائى البرازيلى الشهير، بقوله: «أكتب لأؤثر فى الناس، هكذا أسهم فى تغيير واقع بلادى بخلق رؤية لحياة أفضل لدى الشعب الذى يعانى».
أما إيزابيل الليندى فإنها تفسر الأمر بشكل مختلف تمامًا: «الكتابة دائمًا ما تعطى لفوضى الحياة شكلًا من النظام».. نعم، الفن يكثف الحياة ويستخرج منها القوانين ويسبكها فى نظام معين، والدوافع وراء ممارسة الفن كثيرة، وكل منها صحيح بمفرده، لكن ما من إجابة وافية شاملة تشفى الغليل: لماذا نكتب؟.. هناك فى ذلك المجال ما قاله الروائى العظيم جوزيف كونراد، وأظن أنه وضع يده على سبب أبعد وأعمق للكتابة، فقد فسر الأمر على النحو التالى: «أكتب لكى أحارب فكرة الموت الذى نولد ونحن نعرف أنه ينتظرنا فى نهاية الطريق أو فى أى لحظة، إننا كالسجناء المحكومين بالإعدام الذين ينتظرون لحظة تنفيذ الحكم بهم، بينما تؤجل الكتابة لحظة الإعدام».
إن الإنسان المحكوم بفترة قصيرة من الحياة يحاول أن يطيل أمد وجوده، وتأثيره، ولما كان ذلك مستحيلًا من الناحية العضوية، فإنه يجتهد لتمتد حياته معنويًا وفكريًا وروحيًا عن طريق الأدب والفن، ويسعى بكل طاقته ليهزم الموت ويتجاوزه، وحينما يختطف الموت بدن الإنسان تظل روحه حيّة بشكل موجز فى صندوق صغير يسمونه كتابًا أو سيمفونية أو فيلمًا أو لوحة.. ويكفى أن تفتح الآن رواية لعبدالقادر المازنى وسترى روحه حية أمامك، ويكفى أن تستمع للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن لتسمع كل انفعالاته التى لم تخمد منذ أن كتب عمله إلى الآن.. لم يخترع الإنسان بعد شيئًا أقوى من الفن والكتابة لمواصلة الحياة، ذلك أحد أقوى أسباب العمل الإبداعى.. نحن نكتب لأننا ننشد المزيد من الحياة، وإن كان ذلك التفسير الأخير لا ينفى صحة الاجتهادات السابقة الأخرى فى الرد على السؤال: لماذا نكتب؟