رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هالة أمين تكتب: اعترافات بوتين.. كيف أصبح الرجل الذي هو عليه الآن؟

هالة أمين
هالة أمين

في عام 2013 أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جدلا واسعا عندما كتب مقالا تحت عنوان "دعوة للحذر"، نشر في افتتاحية الصحيفة الأمريكية الأشهر "نيويورك تايمز" تحدث فيه عن قضايا كثيرة تركز معظمها على الشرق الأوسط، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسوريا، والملف النووي الإيراني، والإرهاب وغيرها، ليرد عليه السيناتور الأمريكي الراحل جون ماكين بمقال في الصحيفة الروسية الواسعة الانتشار "برافدا"، وكان أمرا لافتا حينها حيث اختار بوتين منصة أمريكية لنشر مقاله ويطل على الأمريكان منها.

في 2020 عاد بوتين ليكرر نفس اللعبة، إذ نشر مقالا في مجلة "ناشيونال انترست" الأمريكية بعنوان "الدروس الحقيقية المستفادة في الذكرى الـ75 على انتهاء الحرب العالمية الثانية"، وظهر على الموقع الرسمي للكرملين تحت عنوان آخر "الذكرى الـ75 للنصر العظيم: المسئولية المشتركة للتاريخ ومستقبلنا".

تناقلت وكالات الأنباء العربية مقال بوتين الذي تعدت كلماته الـ9 آلاف كلمة، في تقارير قصيرة ربما كانت كلها كانت تحمل عناوين مضمونها رسائل بوتين عن دور روسيا في نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وكورونا والاقتصاد العالمي ودعوته لعقد قمة للدول الخمس الكبار وهم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن "روسيا وأمريكا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا"، لكن الحقيقة أن بوتين عبر عن نفسه بشكل كامل في هذا المقال ربما كشف عن أسباب جعلت منه الرجل الذي هو عليه الآن، والذكريات التي حفرت بداخله رغم أنه ولد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بـ7 سنوات، وأشار إلى تلك الحقيقة في جملة بمقاله قال فيها "يقولون عادة إن الحرب تترك بصمة عميقة على تاريخ كل أسرة، وراء هذه الكلمات، هناك مصائر الملايين من الناس، ومعاناتهم وألم الخسارة، خلف هذه الكلمات يوجد الكبرياء والحقيقة والذاكرة".

تطرق بوتين في مقاله إلى الخريطة السياسية للعالم التي تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية، كيف تفكك الاتحاد السوفييتي الذي حقق انتصارًا ساحقًا وملحوظًا على النازية وأنقذ العالم بأسره على حد قوله، مشيرا إلى ما سمعه من والده عن تلك الفترة حيث قال "بالنسبة لوالدي، كانت الحرب تعني المحن الرهيبة لحصار لينينجراد حيث توفي أخي فيتيا الذي كان يبلغ من العمر عامين، وكان المكان الذي تمكنت فيه والدتي من النجاة بأعجوبة. تطوع والدي، على الرغم من إعفائه من الخدمة الفعلية، للدفاع عن مسقط رأسه. لقد اتخذ نفس القرار الذي اتخذه ملايين المواطنين السوفييت. حارب وأصيب بجروح خطيرة. وكلما مرت سنوات، كلما شعرت بالحاجة للتحدث مع والدي ومعرفة المزيد عن فترة الحرب في حياتهم. ولكن لم يعد لدي الفرصة للقيام بذلك. هذا هو السبب الذي يجعلني أحتفظ في قلبي بالمحادثات التي أجريتها مع والدي وأمي حول هذا الموضوع، بالإضافة إلى العاطفة القليلة التي أظهروها".

يعود بوتين مرة أخرى للحديث عن نفسه والروس من نفس عمره الذين لم يلحقوا أحداث الحرب والانتصار، ويقول "أعتقد أنه من المهم للأشخاص من نفس عمري أن يقوموا بنقل كل شيء لأطفالنا وأحفادنا حتى يفهموا العذاب والمعاناة التي كان على أسلافهم تحملها. إنهم بحاجة لفهم كيف تمكن أسلافهم من المثابرة والانتصار. من أين أتت قوة إرادتهم المطلقة التي أذهلت العالم كله؟ بالتأكيد، كانوا يدافعون عن منازلهم وأطفالهم وأحبائهم وعائلاتهم. ومع ذلك، فإن ما شاركوه كان حب وطنهم الأم. ينعكس هذا الشعور العميق في جوهر أمتنا تمامًا"، من هنا تستطيع أن تشعر بفخر بوتين بوطنه بالإرث السوفيتي الذي يريد أن ينقله الروس ممن عاصروا تلك الأمجاد إلى ذريتهم، ومن هنا أيضا نستطيع أن نفهم لماذا يتصرف بوتين بكل تلك الندية أمام الغرب والولايات المتحدة.

تستطيع أن تستشعر وأنت تقرأ ما كتبه بوتين عن إهمال دروس التاريخ، رغبته الشديدة في أن يقوم الغرب والولايات المتحدة بتقدير بلاده على دورها في الحرب العالمية الثانية ولكن أيضا هو يربط بين الماضي والحاضر فهو يطالب أيضا باعتراف دولي بدور روسيا الآن على الساحة الدولية ولذلك يوجه لهم رسائله عبر التعلم من دروس الماضي.

وستتأكد خلال التنقل في مقال بوتين أنه ليس رجلا عسكريا ومخابراتيا ورياضيا فقط بل هو رجل مثقف فهو يستشهد بالشعر والقصائد الروسية حيث ألمح لقصيدة ألكسندر تفاردوفسكي عن معاناة الجنود الروس في الحرب العالمية الثانية، وفي مغازلة أخرى للأمريكان داخل المقال بخلاف نشرها أصلا في مجلة أمريكية، يتطرق بوتين إلى خطاب فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي وخطابه الذي ذكر فيه جهود القوات الروسية ودورها في الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، وانتقل إلى مغازلة البريطانيين حين نوه إلى رسالة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل لـ جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة والتي أيضا اعترف فيها بقوة الجيش الروسي الذي مزق أحشاء الآلة العسكرية لألمانيا النازية على حد قوله.

وينتقل بوتين من مغازلة الأمريكان والبريطانيين بشكل خاص إلى مغازلة المجتمع الدولي ككل حين أكد على إن إنشاء النظام الحديث للعلاقات الدولية هو أحد النتائج الرئيسية للحرب العالمية الثانية، قائلا "حتى أكثر التناقضات التي لا يمكن التغلب عليها - الجيوسياسية والأيديولوجية والاقتصادية - لا تمنعنا من إيجاد أشكال من التعايش والتفاعل السلمي، إذا كانت هناك رغبة وإرادة للقيام بذلك. يمر العالم اليوم بوقت مضطرب. كل شيء يتغير، من ميزان القوة والنفوذ العالمي إلى الأسس الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية للمجتمعات والأمم وحتى القارات. بفضل حكمة وبعد نظر الشخصيات السياسية لقوى الحلفاء، كان من الممكن إنشاء نظام أدى إلى الانتصار في الحرب معا. من واجبنا ضمان الحفاظ على هذا النظام وتحسينه اليوم، كما في عام 1945، من المهم إظهار الإرادة السياسية ومناقشة المستقبل معًا -شي جين بينج، وماكرون، وترامب وجونسون- دعموا المبادرة الروسية لعقد اجتماع لقادة الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. نشكرهم على ذلك ونأمل أن يتم عقد هذا اللقاء وجهًا لوجه في أقرب وقت ممكن".

ذكاء بوتين يكمن هنا في الربط بين الماضي والحاضر، فهو يذكر الغرب وأمريكا كيف كان الحلفاء وتعاونهم سببا في الانتصار على النازية، وكيف يمكن أن يصنع هو والغرب وأمريكا والصين نفس النظام الذي قام على التعايش والتفاعل بين القوى الدولية، بل أنه أعطى أبعادا لهذا التعاون حين اقترح قائلا "في رأي، سيكون من المفيد مناقشة خطوات تطوير المبادئ الجماعية في الشؤون العالمية. التحدث بصراحة عن قضايا الحفاظ على السلام، وتعزيز الأمن العالمي والإقليمي، وتحديد الأسلحة الاستراتيجية، حول الجهود المشتركة في مكافحة الإرهاب والتطرف وغيرها من التحديات والتهديدات الرئيسية. وقبل كل شيء، التغلب على الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها جائحة كورونا المستجد"

هنا يضع بوتين أرضية للتعاون المشترك بين روسيا والغرب والولايات المتحدة، بل ويحرجهم أيضا حيث مد إليهم يده من خلال اقتراحه العديد من المبادرات ومغازلهم مجددا في ختام مقاله حين أكد أنه "لا يمكن أن يكون هناك شك في أن قمة بين روسيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ستلعب دورًا مهمًا في إيجاد إجابات مشتركة للتحديات والتهديدات الحديثة، وستثبت التزامًا مشتركًا بروح التحالف تلك القيم والمبادئ الإنسانية العالية التي حارب آباؤنا وأجدادنا من أجلها. بالاعتماد على ذاكرة تاريخية مشتركة، يمكننا أن نثق ببعضنا البعض ويجب أن نفعل ذلك. وذلك سيكون بمثابة أساس متين للمفاوضات الناجحة والعمل المتضافر من أجل تعزيز الاستقرار والأمن على هذا الكوكب، من أجل الرخاء والرفاه لجميع الدول. بدون مبالغة، من واجبنا ومسؤوليتنا المشتركة تجاه العالم بأسره، تجاه الأجيال الحالية والمقبلة".