رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم نجم مستشار المفتى يكتب عن موت سارة حجازى: رسالة من الله

إبراهيم نجم و سارة
إبراهيم نجم و سارة حجازى

يُحكى أن رجلًا أوروبيًا غير مسلم قد جاوز التسعين من عمره، وقد عاش حياته بعيدًا عن طريق الله، لكن تحرك فى قلبه باعث البحث عن الحق، فقرر أن يتواصل هاتفيًا مع أحد المراكز الأهلية الإسلامية فى بلده، وسأل الشيخ: أنا رجل مضى عمرى، وقد فعلت فى حياتى كل المخالفات والآثام، لكننى قررت العودة للحق، وبحثت فوجدت أن الحق فى الإسلام، فهل يمكننى أن أصبح مسلمًا؟ فأجابه الشيخ بأنه للأسف قد فات الوقت على هذا.

أغلق الرجل العجوز الهاتف. وقد أصابه حزن عميق، وكآبة جثمت على صدره كأنها جبل.. لكن بعد عام تحرك الباعث فى نفسه مرة أخرى، ولتقدير إلهى تيسر له التواصل هاتفيًا مع أحد الدعاة المسلمين الفاهمين وكرر عليه السؤال نفسه، على النحو السابق، فأجابه الداعى وقد تهلل وجهه فرحًا: نعم طبعًا باب الله مفتوح فى كل وقت ورحمته وسعت كل شىء، فقط توجه إلى المكان الفلانى ستجدنى فى انتظارك، حتى نلقنك الشهادة، ونقوم بعمل اللازم.

هنا انفرجت أسارير الرجل، وقد تفاجأ بانفتاح سبيل للنور مرة أخرى، بعدما كان قد يئس من الأمر، هذا الشيخ لم يكن جاهلًا كصاحب العابد الذى أخبر قاتل المائة بأنه لا توبة له، كما جاء فى القصة المشهورة التى حكاها لنا الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكنه عانى من مرض آخر خطير، لا يقل خطورة عن الجهل، وهو الافتقار إلى الرحمة.

رحلت فتاة مسكينة منذ أيام تدعى سارة حجازى، وتركت رسالة بخط يدها قبل أن تدخل إلى حمام منزلها وتشنق نفسها:
«إلى إخوتى..
حاولت النجاة وفشلت، سامحونى.
إلى أصدقائى.
التجربة قاسية، وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحونى.
إلى العالم..
كنتَ قاسيًا إلى حد عظيم؛ ولكنى أسامح
سارة حجازى».

انفجر عالم التواصل الاجتماعى بكمية من التعليقات التى تحذِّر من الترحم عليها، لأنها منتحرة كافرة ملحدة، وشاذة جنسيًا أيضًا، والبعض الآخر يحذر حتى من الكلام عنها أصلًا، لأن ذلك يساعد على ترويج أفكارها بين الشباب، ويجعل منها قدوة ومثلًا أعلى، أما مشايخ الفتنة المتطرفون فقد أكدوا هذه المعانى كلها، ودللوا عليها بنصوص من القرآن والسنة، حفظوا مبناها وجهلوا معناها.

ذلك هو الخطاب الدينى المتطرف الذى كان سببًا فى سلوك سارة هذا الطريق من بدايته، بل مئات وربما ألوف مثلها.
لقد عانينا فى مصر، وفى سائر دول المنطقة، من خطاب دينى متخلف تبنته جماعات التطرف والإرهاب، وروجت لدى كثير من الشباب أحلامًا، بل أوهامًا تحت مسمى استعادة الخلافة والتمكين لهذا الدين، وأخفى هذا الخطاب كثيرًا من العيوب والأمراض الأخلاقية التى كانت تختفى ولا تظهر تحت تلك الدعاوى، أو تظهر على أكثر تقدير باعتبارها أخطاء فردية لا علاقة لها بأصل المنهج.. فلما استفاق الشباب المغرر به من الكابوس- اللا إسلامى- لم يستطع البعض منهم تحمل هذه الصدمة، وقال فى نفسه إن كان هذا هو الإسلام فأنا لا أريد الإسلام، فارتد ردة نفسية لا ردة دينية، وكثير منهم خرج من أزمته بعدما أدرك الفرق الكبير بين ممارسات تلك الجماعات الإرهابية وبين جوهر الإسلام النقى الحقيقى.

فالأزمة إذن فى ذلك الخطاب الدينى الذى افتقد إلى أهم معلم من معالم الإسلام ألا وهو الرحمة، ذلك الخطاب المنفر الكاره نفسه قبل أن يَكْره كل من حوله، الذى لم يكتف بتشويه صورة الدين التى يقدمها للناس فقط، بل حرص كل الحرص على تشويه المؤسسات الدينية الرسمية التى تقدم النسخة السمحة الوسطية التى كان عليها النبى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم.

ألم يقل الله سبحانه فى كتابه العزيز لرسوله الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، ألم يقم النبى، صلى الله عليه وسلم، لجنازة اليهودى؟ فى صورة عملية توضح قدر الرحمة فى قلبه، صلى الله عليه وسلم، ولما قيل له: هذه جنازة يهودى.. قال، صلى الله عليه وسلم: أليست نفسًا؟!

إن الرحمة بجميع الخلائق مهما كان حالهم من القرب أو البعد عن جادة الصواب صفة من أهم صفات الأنبياء، عليهم السلام، وقد جاء عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء»، أما المنهى عنه فى تفاسير العلماء فهو الاستغفار، على أن بعضًا من العلماء حمل الاستغفار المنهى عنه على صلاة الجنازة، فلا تُصلَّى على الكافر باتفاق، وتكون فائدة الاستغفار تخفيف العذاب، كما فصلَّه الإمام الرازى فى تفسيره، وهذا فيمن علم كفره قطعًا.

انشغل الناس بردة سارة ومصيرها، ولم ينشغل أحدهم بالأسباب التى دفعت سارة إلى هذا الموقف، انشغلوا بعالم الغيب ولم ينشغلوا بمسئولياتهم الدينية والأخلاقية فى عالم الشهادة.. اهتموا بمصير سارة التى مضت ضحية التسمم الفكرى إلى أرحم الراحمين، ولم يناقشوا القضية الأساسية، وهى: لماذا عانت سارة هذه المعاناة؟ وهل من سبيل إلى إنقاذ أشباهها من فلذات أكبادنا من المصير نفسه؟
موت سارة رسالة من الله لنا، حتى نرى الذئاب التى ترتدى ثياب الفضيلة تتحدث لنا باسم الحرية، وتسرق أبناءنا منا بكلام معسول، ظاهره فيه رحمة وباطنه كله عذاب، وحتى نحْذَر من المتطرفين الذين مهدوا لها الطريق بالممارسات المشينة باسم الدين، وحتى نُقبِل على المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر الشريف ودار الإفتاء، ونسأل ونتعلم.
موت سارة رسالة من الله لنا، حتى ندرك أنفسنا، وننقذ الباقى من أبنائنا قبل أن يلاقوا المصير نفسه.