رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سد النهضة ولحظة الحقيقة


كنت قد بدأت الأسبوع الماضى المقال الأول من سلسلة مقالات تحاول استقصاء الجذور العميقة للعنصرية فى الولايات المتحدة، غير أن إحساسًا داهمنى بإمكانية تأجيل المقال الثانى من هذه السلسلة هذا الأسبوع. فالأمر، عمومًا، ستستمر تأثيراته وتوابعه لفترة طويلة، ولن يُضيره هذا التأخير المحدود، لأن طارئًا جدَّ، يتعلق بقضية «سد النهضة»، ينبغى التنبيه إليه ولا يحتمل التأجيل.
كان قد شاع تفاؤل حذر فى أوساط كل المعنيين بالقضية، وهم فى واقع الأمر جميع المصريين باستثناء مرضى العقل والضمير من جماعة «الإخوان» وأشياعها، جرّاء التحول الإيجابى فى الموقف السودانى، الذى تبدّى فى مُذكِّرة الحكومة السودانية المُقدمة مؤخرًا إلى «مجلس الأمن»، والتى طالب السودان فيها بـ: «حث جميع الأطراف على الامتناع عن اتخاذ أى إجراءات أُحادية قد تؤثر على الأمن والسلم الإقليمى والدولى»، وشددت المُذكِّرة على ضرورة الامتناع عن التسبب فى أخطار جسيمة للدول الأخرى، والاتجاه للتسوية السلمية للنزاعات.
وساعد فى إشاعة هذا التفاؤل لدى الكثيرين أن السودان كان قد رفض قبل تقديم مُذكّرته مقترحًا إثيوبيًا خبيثًا بتوقيع اتفاق ثنائى جزئى للملء الأول للسد، وأعلن تمسكه بالاتفاق الثلاثى المُوقع بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، كما أن السودان أعلن بناءً على محادثات بادر بها رئيس الوزراء السودانى د. «عبدالله حمدوك»، مع المسئولين المصريين، فى زيارته لها، ثم مع رئيس الوزراء الإثيوبى «آبى أحمد»، عن قبول إثيوبيا بعودة الأطراف الثلاثة إلى طاولة المفاوضات، «لتكملة الجزء اليسير المُتبقى من اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبى، حسبما تم فى مسارات التفاوض خلال الشهور الأخيرة» (الأهرام- ٢٢ مايو ٢٠٢٠)، وهو ما رحّبت به وزارة الخارجية المصرية، مُعربةً عن «استعدادها الدائم للانخراط فى العملية التفاوضية»، للإسهام فى «التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن وشامل يحفظ مصالح مصر المائية، وبنفس القدر يُراعى مصالح مصر والسودان» (المصدر نفسه).
وفجأةً، على نحو ما عوَّدنا الطرف الإثيوبى خلال السنوات الماضية، قام بقلب الطاولة على رءوس الجميع، فقد أعلنت القوات المسلحة السودانية، أن «اشتباكات اندلعت فى يوم ٢٦ مايو مع الجيش الإثيوبى عند الحدود الشرقية، عبر نهر عطبرة، ومع ميليشيات مُسَلحة بإسناد من الجيش الإثيوبى، غرضها سحب مياه من النهر، واشتبكت معها قواتنا فى منطقة البركة ومنعتها من أخذ المياه، مما أسفر عن «استشهاد» ضابط فى الجيش وفقدان فرد من قوة تابعة له، وجرح آخرين، كما توفى سودانى وجُرح مدنيون». وهو تصرف كافٍ يبين عن المكتوم والنوايا الإثيوبية الحقيقية، لكن هذه المرّة تجاه السودان. فعهد الكلام المعسول انتهى، والحديث الآن للقوة والسلاح، وأطماع إثيوبيا لا تتوقف عند حد!
والأخطر أن الحديث عن «العودة إلى طاولة المحادثات» أصبح فى خبر كان، وعاد القادة الإثيوبيون، فى تحدٍ واضح للمصريين والسودانيين معًا، يُعلنون، بلا مواربة، على لسان «أبى أحمد»، رئيس الوزراء، أن: «قرار تعبئة وملء سد النهضة (فى موعده المُقرر) لا رجعة فيه»، مُضيفًا أن «التأخيرات المُتتالية لبناء سد النهضة جلبت لنا فوائد كثيرة»، وهو هنا يُشير إلى انشغال العالم، فى مواجهة «كورونا» عن التدخل فى قضية السد!
ثم أعاد «ديميك ميكونين»، نائب رئيس الوزراء الإثيوبى، فى زيارة للسد، يوم الأحد الماضى، ٧ يونيو، التأكيد على «ضرورة الإسراع فى بناء السد من أجل البدء فى ملء المياه فى الإطار الزمنى المُحدد»، «أى شهر يوليو القادم!»، مُعيدًا إلى الأذهان تصريحات واضحة وخطيرة كان قد أدلى بها «سيليشى بيكيلى»، وزير المياه والرى والطاقة الإثيوبى: «إن بلاده لن تعترف بالحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل» «وكالة الأنباء الإثيوبية (إينا) وكالة رويترز، ٨ يونيو ٢٠٢٠».
والخلاصة: إن إثيوبيا عازمة، شاء من شاء، وأبى من أبى، على البدء فى ملء «سد النهضة» بعد أيام، وبشروطها المعروفة: فماذا نحن فاعلون كشعب وكدولة؟
هذا هو سؤال اللحظة.. سؤال المصير.