رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نكون أو لا نكون 3.. فرج فودة يكتب: درس عظيم من عادل إمام

فرج فودة
فرج فودة

قصة المقال‮:

‬فى ليلة هادئة من ليالى الصيف، كانت إحدى الفرق المحلية المتواضعة، وهى فرقة ساحل سليم المسرحية، تستعد لعرض مسرحية‮ (‬أخلاقية هادفة‮) ‬فى قرية كودية الزار بمحافظة أسيوط، مستخدمة فى الأسواق، كخشبة مسرح، وملاءات الأسرة كستارة، وبعض كراسى المقاهى كمقاعد للمتفرجين، وعلى الناحية الأخرى من الترعة، تجمع المجاهدون من أعضاء الجماعات الإسلامية، فى أحد المساجد، ومعهم الميكروفون، الذى أعلن من خلاله أميرهم، فتواهم الشرعية بحرمة التمثيل، وكفر من ألف المسرحية ومن أخرجها ومن مثلها ومن رآها، وفى لحظة محددة، غمز بعينه فارتفع هتاف أحدهم، لا إله إلا الله، الثقافة عدو الله، ذلك الهتاف الذى قاد المسيرة المسلحة بالجنازير والأسلحة البيضاء وغيرالبيضاء، ولم يكن ثمة مفر من استدعاء الأمن، وسقوط بعض الجرحى والقتلى من الجماعات، ويقينا فقد شمل كشف الضحايا آخرين، منهم المسرحية التى تمثل، والفرقة التى أصابها الرعب، والممثلة الوحيدة التى انهالت على خدودها لطما وهى تلعن اليوم الأسود الذى قاد أقدامها إلى ما يمت للثقافة بصلة، ووسط ردود الفعل الغاضبة من المثقفين والفنانين فى القاهرة، تفرد عادل إمام، أكثر النجوم شعبية وشهرة، بموقف لن ينساه له التاريخ‮. ‬

لقد أعلن عادل إمام عن عزمه على تمثيل مسرحيته‮ (‬سيد الشغال‮) ‬دون أن يغير من مواقفها موقفا، أو من حروفها حرفا، فى عاصمة محافظة التطرف، أسيوط، فظن الجميع أنه يتحدث بمنطق أنه ليس على المتحدث حرج، وحاول محبوه تحذيره فكان رده‮: ‬جمهورى سوف يحمينى‮.. ‬ويوم العرض خرجت أسيوط لكى تحيى موكبه فى الذهاب إلى المسرح وفى العودة منه، كما تحيى الجماهير فى أى مكان بطلها القومي‮.. ‬

وقد شارك شخصى المتواضع فى تحية هذا الفنان العظيم، بهذا المقال، وشاءت جريدة "الأهرام" ألا تنشره‮. ‬

 

 

 

كان درسًا عظيما يا إمام‮ ‬

المقال‮:

‬وأخيرا تصدى الشعب، دفاعًا عن وجدان الأمة وفكرها، ورد على الخنجر بالكلمة، وعلى الجنزير بالبسمة، وعلى الردة بالفن، وما أشبه القطار الذى حمل فرقة الفنانين المتحدين إلى أسيوط، بقطار الرحمة الذى عاصرناه صغارا، وما أجدرنا جميعا بأن نستوعب درس ما حدث فى أسيوط‮.. ‬

الدرس ببساطة يؤكد ما ذكرناه، وكررناه دائما، وهو أن الجهل يتقدم بقدر خوف العقلاء، والردة الحضارية تقوى بقدر تراجع المتحضرين، والعناصر الظلامية تصبح عالية الصوت عندما يخفت صوت المتنورين، قلنا هذا وأثبتته فرقة الفنانين المتحدين حين فعلت العكس، فعلا صوت العقل، واتنصر صوت الحضارة وارتفعت رايات النور والتنوير‮.. ‬

الدرس ببساطة، أن الأغلبية بخير، وأنها حين يجد الجد تعطى صوتها لكل ما هو جميل ونبيل وأصيل وحضارى، والمشكلة أنها أغلبية صامتة، ودور الرواد أن يحركوا هذه الأغلبية فى مسارها الطبيعى، للأمام ومن أجل المستقبل، وقد أثبتت جماهير أسيوط صدق ما توقعناه، حين تحركت فاختفت خفافيش الظلام، وسكن صوتها، وداست الجماهير بياناتها بالأقدام‮.. ‬

الدرس ببساطة أن قليلا من الشجاعة يصلح الوطن، وقد كان عادل إمام شجاعا، وقبله الدكتور هاشم فؤاد‮ ‬شجاعا، وقبلهما كان مصطفى مرعى‮ ‬شجاعا، والشجعان يحترمهم الشعب، ويضعهم فى حبات القلوب، ويجدون مكانا رحبا فى سجل التاريخ، والتاريخ خير حافظا وهو أعظم المقدرين، فقد واجه بولس نيرون وهو إمبراطور الدولة الرومانية وحاكمها الأوحد، فأين نيرون من بولس، وواجه أثناسيوس اضطهاد الرومان فى مصر، وحاول أحد مريديه أن يثنيه قائلا‮: ‬العالم كله ضدك يا أثناسيوس فكان رده البليغ‮ ‬وأنا ضد العالم، وكان أن عاد أثناسيوس إلى كرسى البابوية، وحفظه تاريخ المسيحية ركنا من أركان الإيمان والعقيدة، وواجه الحسين يزيد بن معاوية وهو الخليفة والدنيا والسلطان فأين يزيد من الحسين، وأين الأمويون اليوم من الشيعة الحسين، وواجه جاليليو مجمع الكهنة حين أنكروا دوران الأرض حول الشمس، فأين هم من جاليليو، ومن يذكرهم اليوم إلا بالاستهزاء، ولست أشك فى أن درس أسيوط سوف يكون ميلادا جديدا لمزيد من الشجاعة والشجعان ولست أشك أيضًا فى أن هزل الصبية سوف يستحيل إلى زبد يذهب جفاء، وأن الإيمان بالله والوطن سوف يمكث فى الأرض‮.. ‬

ويا عزيزى عادل، سألنى العشرات كيف يتصلون بك وينقلون مشاعرهم إليك فكان ردى أنك مؤمن بأن ما فعلته أنت وأعضاء فرقتك العظماء، لا يزيد على كونه واجبا عليكم فى زمن عز فيه أداء الواجب، وحقا أديتموه للوطن، فحق للوطن أن يحييكم ويحميكم ويشد على أيديكم، ويردد معى ما عنونت به المقال‮: "‬كان درسًا عظيمًا‮.. ‬يا إمام"‮.