رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار حول العلمانية 2.. فرج فودة يكتب: التطرُّف السياسى الديني فى مصر

فرج فودة
فرج فودة

(المشكلة)
تحتل مشكلة التطرُّف السياسى الدينى موقعًا متفردًا على رأس سلم أولويات مشكلات المجتمع المصرى الراهن، للأسباب التالية:
1 - أنها مشكلة آنية، بمعنى أنها مطروحة حاليًا، وبسخونة زائدة ومتزايدة.
2 - أنها تتميز بالشمولية، حيث لا تنصب على قطاع معين أو جانب من جوانب الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل تتعدى ذلك كله، أو إذا شئنا الدقة تشمل ذلك كله، وتستهدف دعوة واضحة لتغيير النظام السياسى للدولة، إما بالعنف فى مذهب بعض التيارات وإما بالسلم فى مذهب بعضها الآخر، وإما بهما معًا كما يحدث فى مصر.
3 - أنها محصلة لأسباب متعددة، يصعب حصرها ويصعب أيضًا الاتفاق عليها، بعضها تاريخى وبعضها يتعلق بمظاهر أزمة حالية لها أوجه متعددة ومتشابكة، الأمر الذى يستحيل معه تصوّر إمكانية حل هذه المشكلة فى زمن قصير بمواجهة الأسباب جميعًا وعلاجها بصورة حاسمة.
4 - أنها تقود المجتمع المصرى إلى مواقف المواجهة مع النفس، وهو أمر لا يقبله العقل المصرى بسهولة، والمقصود بالمواجهة مع النفس الاعتراف بحجم المشكلة والإعلان الصريح عن مواقف محدّدة، والدعوة السافرة لما هو مرغوب، والإنكار الواضح لما هو مرفوض، والاعتراف الصادق ببعض المشكلات (الحساسة)، والإشارة -دون غموض أو لبس- إلى ما يتهدد المجتمع من أخطار حقيقية، وهى كلها أمور لا تتناسق مع ما درج عليه الرأى العام من رفع شعار «ليس فى الإمكان أحسن مما كان».
5 - أنها ليست مشكلةً أو قضيةً محليةً خالصةً، بل هى قضية شرق أوسطية بتكرار مظاهرها فى بلدان الشرق الأوسط كلها، وهى قضية تثير كثيرًا من الشكوك حول تدخل عوامل أو قوى إقليمية أو عالمية، سواء فى إثارتها أو محاولة استغلالها أو الاستفادة من نتائجها المحتملة.

المبحث الأول
المشكلة (تعريفها - طبيعتها)
1 - تعريف المشكلة:
يشكل تعريف المشكلة نقطة البدء فى الحل، والواضح أن تعريف هذه المشكلة قضية خلافية.
(أ) التعريف السائد:
ينطلق التعريف السائد من وجهة نظر «زمنية» ربما لكون الدولة ممثلةً للطرف الآخر فى مواجهة التطرُّف.
وربما لسيادة المفهوم الأمنى على قطاعات الإعلام أو الفكر السياسى للحزب الحاكم، الأمر الذى ترتب عليه تعريف المشكلة بأنها «استخدام التيارات السياسية الدينية للعنف فى محاولة فرض الرأى، وتهديدها للنظام العام بترويج فكر مناهض للسلطة الحاكمة مضمونه خروج هذه السلطة عن صحيح الدين».
(ب) تعريف آخر:
يتبنّى الكاتب تعريف المشكلة بأنها «طرح قضية سياسية شديدة التخلُّف والغموض من خلال منطق دينى شديد القبول والوضوح»، وبوضوح أكثر فإن المشكلة تتمثل فى أن الطرح الدينى لقضية تطبيق الشريعة الإسلامية يحتوى ضمنًا على هدف سياسى يتمثل فى تحويل مصر إلى دولة دينية يحكمها نظام شبيه بنظام الخلافة الإسلامية، مع ما يستتبع ذلك من تغييرات جذرية فى هيكل الدولة وبنيانها، وأن الطرح المعلن واضح ويحظى بالقبول، بينما الهدف المستتر، على الرغم من غموضه وخطورته لا يجد من يتصدّى له بالعرض أو التفنيد.
ويترتب على هذا التعريف تحديد عناصر المشكلة فيما يلى:
1 - تعاطف الشعب المصرى المتديّن بطبعه مع هذه الدعوة الدينية المعلنة مع جهله الكامل بالأبعاد السياسية للدعوة. 2 - ترتب على «الطرح الدينى» دخول الدولة فى «حوار دينى» الغلبة فيه للتطرّف نتيجة لعدم إيمان الكثيرين بصدق دفاع رجال الدين الرسميين، لشبهة تعلقهم بأهداف دنيوية أو انحيازهم للسلطة فى كل الأحوال، أو نتيجة لضعف هذا الدفاع فى مواجهة منطق متماسك.
3 - نجاح المتطرّفين فى استقطاب قطاعات كبيرة ومتزايدة من الشباب وإقناعهم بمنطق فكرى دينى متكامل ومنغلق وتشكيلهم تنظيميًا فى مجموعات صغيرة تدين بولاء تنظيمى مطلق لقادتهم من الأمراء، وتنمية نوازع التمرُّد على المجتمع لأسباب اقتصادية واجتماعية إلى درجة إحداث فصام حقيقى بينهم وبين المجتمع، مع التركيز على المظاهر الشكلية، مثل الزى وأسلوب الحياة، وإطلاق الأسماء السلفية، والعزلة فى المساجد أو الصحراء للتأكيد على الفصام والتهيئة لنوازع العنف، مع فشل التيارات السياسية المناهضة فى التأثير على قطاع الشباب بدرجات تتراوح بين الفشل المطلق للاتجاهات الليبرالية والفشل النسبى للاتجاهات اليسارية.
ويلاحظ هنا الربط بين نجاح المتطرفين فى قطاع الشباب وبين تعريف المشكلة، حيث يتم الاستقطاب على أساس استغلال المشاعر الدينية فى تنظير الرفض لما هو قائم، ثم توجيه الشباب إلى التغيير كهدف وحيد، مع تبنى العنف كأسلوب لا بديل له، مع بحث النتائج المترتبة على ذلك، وكلها نتائج سياسية يتم إجمالها تحت مسميات عامة من نوع «الحاكمية لله» أو «الحكم بما أنزل الله»، وهو ما أشار إليه التعريف (قضية دينية واضحة وأهداف سياسية مجهلة).
4 - انسياق الأحزاب السياسية، حتى الحزب الحاكم الذى تهدده هذه الظاهرة بصورة مباشرة، وحتى الأحزاب علمانية الفكر مثل «الوفد والتجمع»، وراء رفع الشعارات الدينية سعيًا وراء الأصوات الانتخابية. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك تصريح رئيس حزب الوفد لبعض ناقديه فى تحالفه مع «الإخوان المسلمين» بقوله: «ماذا أفعل وجميع انتخابات النقابات والاتحادات الطلابية يكسبها التيار الإسلامى»، وهنا يظهر عنصر جديد من عناصر المشكلة، وهو تبنّى الشرعية لمطالب الخارجين على الشرعية.
2 - طبيعة المشكلة:
يختلف المفكرون حول طبيعة المشكلة، أو بمعنى أدق ينقسمون وفقًا للزاوية التى ينظرون منها إلى المشكلة، إلى خمس مجموعات:
(أ) هى مشكلة تشريعية:
يرى أصحاب هذا التصور أن المشكلة ذات طبيعة تشريعية، وأنها تنحصر فى استبدال بعض القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية بقوانين أخرى مستمدة منها، ويتراوح المؤيدون للتغيير بين ضرورة الإسراع بالتغيير الفورى أو ضرورة الإبطاء، وهو ما يطلقون عليه اسم التدرُّج، بينما يثير المعارضون عديدًا من الحُجج، منها أن البدء يكون بتكوين المجتمع المسلم، ومنها أن المؤيدين يخلطون بين الفقه والشريعة، ومنها الاختلاف حول عدد الحدود وحول مصدرها، وهل يقتصر على النص القرآنى أو يمتد إلى السُّنة القولية أو الفعلية أو ما طبّقه الخلفاء الراشدون؟ ويصل بعضهم إلى القول بأن ما هو مطبّق حاليًا مطابق فى مجمله، بل وفى تفصيلاته للشريعة الإسلامية، بمفهومها الصحيح، وأنه لا حاجة لتعديل تشريعى.
(ب) هى مشكلة دينية:
يرى أصحاب هذا التصوّر أن المشكلة ذات طبيعة دينية بحتة، ويتراوح المؤيدون بين الدعوة إلى تطبيق الشريعة (استكمالاً للدين)، وبين اعتبار الجهاد فريضةً، أو اعتبار الخلافة ركنًا دينيًا، وفى كل الأحوال ينطلقون من مفهوم أن الإسلام دين ودولة، مع ضيق أو اتساع فى تصور حدود (الإسلام/ الدولة) غير محدود خارج نطاق العموميات، وأن تعطيل النصوص القرآنية تحقيقًا لمصلحة أو اتقاءً لضرر، قاعدة ثابتة منذ عهد الرسول، وأن التوسُّع المحدود فى تطبيق هذه القاعدة فى عصرنا الحديث له ما يُبرره، بل ويبرر استمراره، دون أن ينقص هذا من إسلام المسلم، أو أن ينقض من هيبة الإسلام وقدسيته والالتزام به.
(ج) هى مشكلة هوية:
يرى أصحاب هذا التصوُّر أن المشكلة ذات طبيعة تتعلق بالهوية، ويرى المؤيدون أن الهوية الإسلامية تمثل الحل الصحيح فى مواجهة الحضارة المعاصرة غريبة السمات والجذور، وأن إحياء هذه الهوية يمثل إحياءً لجذور قادرة على إفراز حضارة معاصرة لها ارتباط حقيقى بالأرض والتراث وطبيعة الشعوب، وأن الإسلام قد تعدى دوره كدين إلى دور أوسع ثقافيًا وحضاريًا، وأن ما يترتب على إحياء الهوية الإسلامية من قيام الرابطة الإسلامية ممكنًا ومطلوبًا فى مواجهة صراع القوتين العظميين اللتين تسيطران على العالم الآن.
ويتصدى المعارضون بأن الهوية الوطنية هى الهوية الوحيدة المقبولة من الجميع، وأن هذا الحوار يمكن أن يُطرح فى المجتمعات التى لا توجد بها أقليات غير مسلمة، ولم تتبلور فيها الشخصية الوطنية الإقليمية نتيجة صراع فكرى ونضالى، كما حدث فى مصر، ويضيفون إلى ذلك كثيرًا من الحُجج والتحفُّظات المناهضة.
(د) هى مشكلة حضارية:
ينظر أصحاب هذا التصوُّر إلى المشكلة من زاوية حضارية، ويرى المؤيدون إمكانية الفصل بين جانبين من جوانب الحضارة الغربية، الجانب الأول منهما هو الجانب الثقافى، والجانب الثانى يتمثل فيما أفرزته هذه الحضارة من اختراعات مادية، وعلى حين يرفضون الجانب الأول، ويتصوّرون إمكانية المواءمة بين الحد الأدنى الضرورى من الجانب الثانى واستعادة كاملة للواقع الحضارى لمجتمعات الصدر الأول فى الإسلام فيما يتعلق بالفكر والسلوك ومنابع الثقافة، وأنه حتى لو كانت النتيجة مجتمعًا أقل تقدمًا بمقاييس الغرب، فإنه سوف يكون مجتمعًا أكثر تماسكًا وسعادة واقترابًا من الطبيعة الإنسانية، ويرى المعارضون أن منهج المؤيدين لا يزيد عن كونه تعبيرًا عن العجز عن مواجهة السباق الحضارى القائم فى عالم اليوم، وأنه هروب من المواجهة الحضارية إلى بحث عن فردوس مفقود، ويتزيد البعض منهم بالقول بأن القراءة المتأنية والواعية للتاريخ تثبت أنه لم يكن كذلك بأية حال.
(هـ) هى مشكلة سياسية:
يرى أصحاب هذا التصوّر أن الطبيعة السياسية للمشكلة هى الأساس، ويتبنى المؤيدون منطق الوصول للحكم، إما عنوة وإما بالأساليب الديمقراطية لإحداث تغيير جذرى فى شكل الدولة ونظام الحكم على أساس أن القرآن هو الدستور وأن الحاكمية لله، ويرفضون أيضًا الديمقراطية القائمة على مفهوم حكم الأغلبية، ويرى المعارضون أنه إذا كان من حق هذه الجماعة السياسية أن تسعى للوصول إلى الحكم، فإن عليها أن تطرح برنامجًا سياسيًا واضحًا، وهو ما لم يحدث، وأن نلتزم بالشرعية وهو ما لم يتحقق، ويتبنى الكاتب وجهة نظر المعارضين، ويرى أن المشكلة ذات طبيعة سياسية أساسًا، وأن الجوانب التشريعية أو الدينية أو غيرها إنما تمثل تنويعات على نغم أساسى فى معزوفة ذات طابع سياسى شديد الوضوح والتميّز.
3 - النتائج:
(أ) يمثل تعريف المشكلة والتعرُّف على طبيعتها نقطة البدء فى الحل.
(ب) تتبنى الدولة تعريف المشكلة بأنها ذات طبيعة دينية وقد ترتب على تبنى هذا المنهج دخول الدولة فى حوار دينى مع الاتجاه السياسى والدينى المتطرّف، رفع فيه كل طرف شعار «نحن أصح إسلامًا»، ويرى الكاتب أن المعركة بهذه الصورة خاسرة تمامًا، وأن المتطرّفين قد نجحوا بذلك فى نقل المعركة إلى ساحة هم فرسانها.
(ج) يتبنّى الكاتب تعريف المشكلة بأنها الطرح الدينى لقضية سياسية، مؤكدًا على الطبيعة السياسية للمشكلة، ويرى أن المواجهة يجب أن تكون ذات طابع سياسى بحت، وأنه إذا كان الطرح الدينى للقضايا السياسية مقصودًا من المتطرّفين فإن دخول الدولة فى حوار دينى بحت، إنما يمثل نجاحًا لا شك فيه لهم، واستجابةً غير مفهومة من الدولة لهدف أساسى من أهدافهم.