رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدرويشة والسندريلا فى أسطورة صفاء النجار

صفاء النجار
صفاء النجار

"الدرويشة" مجموعة قصصية للقاصة صفاء النجار، وهي الإصدار الخامس لها بعد مجموعتين قصصيتين وروايتين، تتضمن الدرويشة 21 قصة، تكتب فيها صفاء النجار ما تشعر به وتفكر فيه بغض النظر إن كان هذا المطروح أو المتداول في الواقع من حكايات مكررة ومستهلكة، حيث تبحث الكاتبة فيما وراء الحكاية وما خلف الأحداث، فقصصها أغلبها مستمدة من الواقع وإن كانت الأحلام بطلا رئيسيا في بعضها.

نجدها في قصة السندريلا وهي بلسان الراوي العليم تدهشنا برؤية مغايرة لما نعرفه عن سندريلا الأميرة الحالمة الطيبة التي لا تهتم سوى بزواجها من الأمير وغير مبالية بشئون الحياة والأحداث المحيطة بمسئوليات صاحبة القصر، سندريلا في الدرويشة امرأة مثقفة تسأل الوزير أسئلة فلسفية وتهتم بشعبها ومشكلاته الاقتصادية وتجعل مفردات العصر الحديث كالتوكتوك والميكروباص والمترو والعاصمة الجديدة تلتحم بأحداث القصة، ثم نراها تواجه الأمير بكيفية مجيئها للقصر والخدعة التي قامت بها، وتنهي قصتها البديعة عندما سألت الأمير: هل تعرف لماذا جئت؟ فيجيبها: جئت كي تمنحني اسما، فمنذ دهور يرددون سندريلا والأمير دون أن يتساءل أحد عن اسمي، ووحدك من سألني عن اسمي.

أما في قصة "تمساح فستقي" تتمثل لصفاء النجار رؤيتها الشخصية لأوراق الكوتشينة بدلالاتها الرمزية، فكل شكل على أوراق الكوتشينة ال52 يمثل أحد أعمدة الاقتصاد في أوروبا في القرون الوسطى، الكنيسة الجيش الزراعة والتجارة، ثم تتغنى بترنيمتها الأخيرة للتمساح وتحذره من الإنصات اليها وتطلب منه الكشف عن هويته.

ثم إنها في قصة "البراح الذي يسكنني" بنت السرد فيها على الحوار، لكنه تأرجح بين الفصحى والعامية، وكنت أفضل أن يكون على وتيرة واحدة حتى لا يحدث إرباك القارئ.

وفي متوالية "أنا جميلة لأني أشبه أمي" و"أنا كاتبة لأني أشبه أبي" شبهت أمها بجبل الأوليمب، حيث الأرباب القادرون والربات الراسخات، فأمها امرأة لا تقبل إلا الكمال ولا تعرف الشكوى، تراها جميلة في كل شىء، أما أبوها فقد ترك لها حكايات وأساطير لتكتبها وارتدى أثوابا عديدة من الشخصيات، فهو الحطاب وراعي الغنم والرسام في بلاط الملك وهو الذي دخل الجنة بضربة حظ أو بجرة قلم فأحاطه النور وغشيت عيناه فلم يتسرب النور إلى روحه وجعله دائم التلفت في الحيرة والتيه.

أما قصة "امتحان" منحت فيها الكاتبة التحيات المتبادلة بينها وبين صديقتها دلالات موحية، فمثلا صباح الخير: دليل المحايدة، مهذبة على باب موارب، السلام عليكم: رسمية عتيقة ترتدي خمارا وإعطاء مستقيم حاد الزوايا، وصباح الفل: حماسية وحيوية وبها ألفة.

وتأخذنا صفار النجار إلى القصة التي استحقت أن تسمى المجموعة باسمها وهي قصة "الدرويشة والمريد" وهي بلسان الراوي العليم، تحكي لنا عن الجدة وطقوسها المتخمة بالوجد الصوفي فهي تضع يدها على قلبها تربت عليه أن يهدأ فتلهث بالحمد وهي تردد داخلها: "ممتنة يا رب" في مشهد في قمة الرضا والصفاء الروحي، ثم تستدرجنا الكاتبة بخفة ورشاقة في رحلتها إلى الطريق الصاعد، حيث الطبيبة الشابة التي تخترق صدرها بكفيها وتستخرج قلبها في تناص بديع لما فعله سيدنا جبريل مع الرسول محمد عندما اخترق صدره بيديه ليستخرج قلبه ويغسله من الضغائن ثم يعيده إلى مكانه، ولكن الطبيبة هنا تطلب منها أن تتخلص من كل ما يثقله في رؤية ناعمة أعادت فيها ترتيب أحداث حياتها في سرد سلس فهي تصعد فوق السحب وتهبط مع قطرات المطر في رؤية لدرويشة قلبها في وصال دائم مع الله.

ثم نأتي إلى قصة "الزمن الأسطوري والأزرق الحار" كمتوالية قصصية حتى آخر المجموعة وكأنها سيرة ذاتية عن ابنتها مريم وأختها إيمان النجار التي أصيبت بورم أودى بحياتها، وعلى مدى عشر تقاطعات بين الصوت الذي يرمز الى صوت ايمان والصدى الذي يرمز الى صوت أختها، يتبادلان الحكي عن الألم والفقد والحرمان، وتصل بنا الى القمة حيث تتقمص صوت الصدى فيظل يتكلم بعد وفاة أختها فيقول لها في رسالة بديعة: أخبري الصغيرين أنني أراهما زهرتين على شاطئ روحي، غزالين في غابة مشاعري، أكدي لهما أنني أحاول الطيران والسباحة كي أطوي المسافات الفاصلة بيننا، فأنا أغافل الملائكة وأتعلق بريش أحدهم، لكن الملائكة لم تعد تتوجه كثيرا الى الأرض، قولي لهما أنني ذهبت الى مكان أفضل لكنني أحن لمكانهما، فأنا في مركز الكون والمدارات كلها منحنية فلا استقامة بين نقطتين، فقط تيه أبدي، فراغ يبتلع الأشياء، أخبريهما أنني أقاوم موتي وأنني أحيا بحياتهما.

وعبر 129 صفحة لا تتوقف الدهشة ولا تهرب الألوان ولا الصور، وتبقى القاصة صفاء النجار هي والدرويشة بين الصوت والصدى في سيمفونية فنية رصينة لا تغادرك.