رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أجواء المؤامرة التى تحيط بجائحة كورونا


عُشاق نظريات المؤامرة- التى من وجهة نظرهم من الضرورى أنها حاضرة فى كل مكان، وفى كل حدث، حيث يسعون لإلصاقها بكل الصراعات التى يدور معظمها فى وضح النهار- يتمتعون اليوم بمساحة رواج هائلة لبضاعتهم فى ظل أحداث «جائحة» الكورونا المليئة بالإثارة، والتمدد المتسارع الذى يفوق أعلى السيناريوهات ازدحامًا بالتفاصيل، المخفى والمعلن منها على حد سواء، لتمثل بذلك بيئة نموذجية للذهاب فى خيالات أبعد ما تكون عن الواقع، رغم قسوة الواقع الذى لا يترك ساعة واحدة دون ضغط الأخبار الجديدة، الحقيقية المستقيمة فى معلوماتها مثل أعداد المصابين أو الوفيات جراء الانتشار المذهل فى بعض الأماكن والبلدان.
عادة ما كانت تلك التهمة تُلصق بعالمنا العربى، وأنه يعيش سجينًا فى أغلبه لتلك النظريات التفسيرية، لكن الساحة اليوم شهدت انقلابًا مثيرًا بعدما انتقلت عدوى التفسير التآمرى لتضرب بلدان العالم الأول الذى ظل لعقود هو المنصة الرئيسية لإطلاق هذا الاتهام بحق شعوب ومفكرى منطقتنا.
الاتهامات الآن تلاحق فريق وأنصار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بأنهم يتربعون فى صدارة من يروجون لحزمة كبيرة من الأكاذيب تتعلق بانتشار فيروس كورونا، وأنهم بسبب تنامى الخطر المحدق بالولايات المتحدة مع تسارع أعداد المصابين بالفيروس، صاروا يتخبطون فى تفسيراتهم التى ذهبت إلى إعلانهم أن انتشار الوباء ما هو إلا أخبار مزيفة، لتخفيف الضغط عن «الدولة العميقة» التى تتآمر على الإطاحة بترامب. بسبب ذلك تناول البروفيسور «كيث كلور» من جامعة نيويورك هذا الأمر، فى مقال نشر مؤخرًا بمجلة «بوليتكو» يكشف فيه عن نظريات المؤامرة التى بدأت تنتشر عبر الإنترنت، ويتهم أنصار الرئيس بأنهم هم مَن وراء هذا النشر بتلك الصورة الواسعة.
قام الكاتب بفتح حساب على منصة «تويتر»، من أجل الدخول إلى عالم الجماعات المتطرفة فى تفسيراتها، وإجراء أبحاث مسح للفضاء الذى يحتلونه. وبدأ بمتابعة الشخصيات المعروفة مثل «بيل ميتشل» و«سيدنى باول» و«جوردون ساذر»، الذين يؤمنون بأن ترامب يخوض معركة لتفكيك الدولة العميقة، وكلما تفاعل مع «تويتر» للمتابعة، تلته أسماء أخرى ومتابعون جدد. فتابع أسماء غير معروفة، ربما اختلفت مشاربهم، إلا أنهم متحدون فى جانب رئيسى هو الدفاع عن ترامب، ووصفه بأنه يقوم بمعالجة الأزمة بطريقة جيدة.
ومما هو لافت للانتباه؛ أن هؤلاء أيضًا ينصب جل جهدهم على نقاط ضعف فى الإعلام الرئيسى والناقد للرئيس، حيث بدأت المراهنة لديهم تتجه إلى فرضية أن انتشار الوباء بشكل سريع يسهم بشكل مباشر فى أن يتولد لدى الإنسان شهية للإيمان بنظريات المؤامرة. ففى ظل القلق والأيام الصعبة التى نمر بها يبحث الأشخاص الذين فقدوا السيطرة على حياتهم عن نظريات مؤامرة كى تعطيهم مسارًا مقبولًا لفهم الأحداث الغامضة.
تقرير مجلة «بوليتكو» أورد مثالًا دالًا على عمق أزمة المؤامرة، وهو «أليكس جونز» صاحب موقع «إنفوورز» الذى لا يشكك فى وجود الفيروس، لكنه لم يغير نظريته حول عمليات القتل الجماعى، التى يقول إنها مدبرة، ولا يزال ينشر الكثير من نظريات المؤامرة حول أصول الأوبئة، رغم أنه جرى منعه من التدوين على موقع «تويتر».
هناك المنصة الإيرانية القريبة، التى لا تهدأ عن ضخ كل تنويعات التآمر الذى يجرى عليها على مدار الساعة، وتعتبر ما جرى لها من تفشى إصابات كورونا بهذا النطاق الواسع على أراضيها، إنما هى بترتيب أمريكى وتآمر ممنهج كامل يمارس بحقها. فالرئيس «حسن روحانى» لديه مقولة ذاع صيتها منذ إطلاقها، وسكنت فى وجدان الخطاب الإيرانى وبدت متملكة كل تفسيرات الإيرانيين، عندما صرح بالقول: «الزعماء الأمريكيون يكذبون؛ إذا كانوا يريدون مساعدة إيران، فما عليهم سوى رفع العقوبات، عندها سنتمكن من التعامل مع تفشى فيروس كورونا».
فمنذ ما يقرب من العامين تعهد النظام الإيرانى بمقاومة الحرب الاقتصادية التى تشنها الولايات المتحدة ضد بلادهم، حيث أدت العقوبات إلى تركيع الاقتصاد أكثر من أى وقت مضى. لتتبدل المعادلة اليوم إلى أن فيروس كورونا نجح فيما لم تحققه العقوبات، خاصة بعد تضييق الخناق على العديد من طرق التجارة الإقليمية التى ظلت إيران أكثر اعتمادًا عليها خلال الفترة الماضية، فى محاولاتها المستمرة للالتفاف على العقوبات.
إيران اتخذت الإصابات فيها منحى تصاعديًا مخيفًا، بعد أن اقتربت أعداد الوفيات لنحو «٢٠٠٠ شخص» كما بلغت الإصابات ٢٥ ألفًا حتى مساء الثلاثاء، وفق ما أعلنه المتحدث باسم وزارة الصحة الإيرانية. لتصبح بذلك الدولة الأكثر تضررًا من المرض فى الشرق الأوسط، وتتعمق أكثر عزلتها بصورة تتجاوز أى وقت مضى، مما دفعها لطلب دعم مالى من صندوق النقد الدولى بقيمة «٥ مليارات دولار»، لأول مرة منذ عام ١٩٦٢، باعتبار أن العقوبات تشل قدرتها على الاستجابة الطبية اللازمة.
لكن الحقيقة التى هى بعيدة عن تآمر العقوبات الأمريكية، أن الضربة القاصمة التى تلقتها جاءت نتيجة إغلاق العديد من دول جوارها، بما فى ذلك العراق وتركيا وباكستان وأفغانستان وأرمينيا حدودها مع إيران، كما فرضت قيودًا صارمة على معابر التجارة فى ظل أزمة تفشى فيروس كورونا، بعد أن ظلت طهران لسنوات تستخدم هذه المعابر لتصدير إنتاجها بطرق ملتوية، وعبر شبكات معقدة من الوسطاء والشركات الوهمية، للحفاظ على تدفق البضائع والأموال منها ولها، حتى وإن كان ذلك بتكلفة أعلى وبأوقات تسليم وتسلم أطول من المعتاد.
بالطبع إيران لا تريد الاعتراف بذلك وتروج بقوة لنظريات المؤامرة التى لم تقف عند الولايات المتحدة التى ينالها نصيب الأسد من الاتهامات. بل اليوم تحت وطأة مستجدات كورونا، باتت لا تتورع عن اتهام جيرانها الذين ظلوا يساعدونها فى السر لسنوات، ليس فقط أثناء فصل العقوبات الأخير، لكن على مدى عقود مضت، قضتها طهران تؤصل فى مخيلة جمهورها لأفعال «الشيطان الأكبر»، واليوم تضم لدوائر المؤامرة ضدها من كانوا حلفاء الأمس.