رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جحيم موسيقا المهرجانات


الطريق إلى الجحيم.. يبدأ بالنوايا الطيبة !

ولفظة "الجحيم" هُنا ودلالاتها؛ هي التعبيرالمجازي والمعادل الموضوعي لكل أنواع الموبقات التي تحيط بنا الآن في مناحي الحياة كافة؛ بداية من شرائط الكاسيت ـ في وسائل النقل العام وسيارات السفر"البيجو" بين المحافظات والأقاليم ـ المليئة بفتاوى عتاة شيوخ الوهابية التي اجتاحت المجتمع المصري منذ بداية السبعينيات ـ وماأدراك ماالسبعينيات ـ من القرن الماضي؛ وانتهاءً بتلال القمامة التي تزكم الأنوف وتفقأ الأعين في أكبر الميادين والشوارع والحواري والأزقَّة والعطوف .. وربما داخل بعض العقول !؛ وهي التي مزَّقت ثوب الجمال الذي كُنَّا نزهو بارتدائه بين الأمم منذ فجر التاريخ؛ قبل أن يهتريء ويمتليء بالبُقع والرُّقع والثقوب؛ ليصبح اليوم ـ بمفردات اللغة ـ في خبر"كان" ! ولم نقف قليلاً لنسأل أنفسنا: لماذا اهترأ هذا الثوب الجميل بأيدينا؟ ولماذا انكفأنا ـ في مجتمع المدينة ـ على أعقابنا إلى الداخل؟ وشاعر الربابة بجلبابه وعمامته في أعماق الصعيد الجوَّاني .. مازال يتغنَّى على أوتاره بكل أمجاد أجداده الفرسان الأشاوس!

ففي حقبة السبعينيات وبعد الانفتاح تم إيقاظ التطلعات الطبقية في نفوس البسطاء والكادحين من أفراد الشعب؛ بالقوانين ـ غير المدروسة ـ التي أسهمت في تأجيج الحلم بالملكية الخاصة بوهم النفاذ إلى الطبقة الأعلى؛ فترك الفلاح الأرض، وتمرد العامل على الآلة في المصنع؛ ونزح معهم المدرس والمهندس والطبيب، واستدانوا ـ من طوب الأرض ـ ليولُّوا وجوههم شطر بلاد النفط والدينار والدولار؛ ليعودوا خلقًا آخر غير الذي رحل.. يحملون الأموال وأفكارالبداوة والتصحُّر، ولكنهم لايحملون الأفكار التي تعمل على المزيد من التقدم والازدهار والرفعة للوطن .. لتبدأ رحلة الطريق إلى جهنم !

أموال في أيدي العائدين بلا توجيه باستراتيجية محددة؛ قامت بتجريف الأرض الزراعية وتشييد المباني الخرسانية عليها في عشوائية غريبة؛ وفي أعلاها "أطباق الشبكات العنكبوتية" ـ كنوع من إثبات المدنية والتحضر ـ لتلتقط مايناسب هوى كل فئة من الفئات! وكان المتربصون الحريصون على التقاط تلك الأموال من أيدي العائدين؛ فاتجه بعض المنتجين إلى الاستثمار في القنوات الدينية التي تداعبهم بأحلام الجنة والنجاة من عذاب القبر وتحريم الفنون والموسيقا؛ واتجه البعض الآخرـ كمن يمسك العصا من المنتصف ـ إلى الإنتاج السريع للموسيقا الهلامية التي اعتمدت ـ فيما بعد ـ على التأليف الألكتروني ـ توفيرًا لأجر عازفي الفرق الموسيقية وآلاتها باهظة الثمن ـ مع "توليف" كلمات ذات محتوى فج يتناسب مع أذواق الطالبين الهابطة أصلاً؛ ولا تخضع لرقابة من ضميرالمنتج أو مؤدي العمل .. والمهم فقط هو العوائد المالية لهذا النوع الذي أطلق عليه "موسيقا الضجيج" في أفراح الشعب التي نالت من كل الطبقات بلا استثناء؛ فانتشرت في أفراح الفنادق الكبرى ذات الخمس نجوم؛ وكذا في أعماق حارة "حلال عليك" القابعة في أقصى قيعان الحارة المصرية! وليس المهم هو "صوت المغني" فالآلات الحديثة تعالج كل العيوب في الأصوات التي ماأنزل الله بها من سلطان، وأصبحت مهنة "الغناء" مهنة من لامهنة له؛ وأصبحت الأنغام كأنها ضربات "منجِّد" على "القوس" في تلك المهنة المصرية القديمة !

وليت الأمور توقفت عند هذا الحد من الانتشار لـ "موسيقا الضجيج"، فالمستمع المصري والعربي في حقبة زمن الفن الجميل؛ كان يذهب مستعدًا لمتعة الاستماع ببدلة السهرة الرسمية ذات الكرافت الأنيق؛ والنساء يذهبن بفساتين السهرة المرصعة بما تيسر لهن من حلي؛ ويجلس الجميع وكأن على رءوسهم الطير لأنهم في محراب الجمال والمتعة، حتى تصفيق الاستحسان وطلب الاستزادة كان بقدر وبحساب . ولكن أين ذهب هذا المستمع الجليل والجميل؟ والمستمع الآن هو فئة الشباب الجامح؛ الذي يحضر إلى "ساحة الاحتفال" وقوفًا بلا مقاعد ـ وتلك خدعة أخرى للتوفير بدعوى الحرية ـ ليندمج الجميع رقصًا على إيقاع مايسمَّى الآن ـ زورًا وبهتانًا ـ بـ "موسيقا المهرجانات"، وهي في التوصيف المهذب ليست إلا موسيقا "تهريج منظم" على إيقاعاتٍ دخيلة تمامًا على مجتمعنا وموسيقانا الشرقية وآلاتها الأصيلة، والتي وضع تصميم أنغامها المرهفة الرائعة؛ ذاك الفرعوني القديم ونَحَتَ أوتار قيثاراتها على جدران المعابد من ألوف السنين .

إن إطلاق الحرية لهؤلاء المخربين في إنتاج هذا النوع من الأغنيات والموسيقا دون قوانين رادعة واستراتيجية جمالية مدروسة لحالة المجتمع واحتياجاته لمزيد من الذائقة الجمالية؛ بمثابة مؤامرة على الإبداع والمبدعين في بلادنا، وبخاصة ضرورة الرقابة الصارمة على"كلمات الأغاني" فالبعض منها يحمل في طياته كل الإيحاءات المنافية للأخلاق والتربية الحميدة للأجيال الصاعدة، فالكلمة هي مفتاح الحياة والمعاملات لرفعة الوطن، وحتى لاتصبح الأغاني والموسيقا كالعشوائيات التي انتشرت كحزام النار حول المدن الكبرى، وحول رقابنا جميعًا، ونجلس بلا حول ولا قوة في انتظارالخلاص !

إرحمونا يرحمكم الله .. من هذا التهريج الممنهج !

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون