رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عقل دينى جديد».. «الدستور» تنشر النص الكامل لكلمة الخشت فى «مؤتمر الأزهر»

الخشت
الخشت

اختتمت، أمس، فعاليات مؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى، الذى نظمه الأزهر الشريف، برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى، وحضور نخبة من كبار القيادات والشخصيات السياسية والدينية البارزة على مستوى العالم، وممثلين من وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من ٤٦ دولة من دول العالم الإسلامى.
وعقد المؤتمر على مدار يومين، وتضمن سبع جلسات نقاشية، ركزت محاورها على أطر مفاهيم التجديد، وآلياته، وتفكيك المفاهيم المغلوطة، وقضايا المرأة والأسرة، ودور المؤسسات الدولية والدينية والأكاديمية فى تجديد الفكر الإسلامى.
ومن بين أبرز ما جاء فى المؤتمر كانت كلمة الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، التى تنشر «الدستور» نصها كاملًا، نظرًا لما تحويه من أفكار تستحق التوقف أمامها.

تجاوز العقل الدينى القديم:
لا بد من تأسيس خطاب دينى من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الدينى التقليدى، فتجديد الخطاب الدينى عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر دينى جديد.
ولا يمكن تجديد الخطاب الدينى دون تكوين عقل دينى جديد، ولا أؤمن بإصلاح العقل الدينى القديم؛ لأن العقل الدينى القديم تشكل فى ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة، والأبنية العقلية القديمة تلائم عصورها ولا تلائم عصرنا، فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والناس غير الناس، والتحديات القديمة غير التحديات الجديدة. إننى أحب بيت أبى القديم لكننى لا أحب أن أعيش فيه، وأقدر تراثنا القديم لكننى أحب «أنا وغيرى» أن نصنع تراثًا جديدًا نعيش فيه، فهم رجال ونحن رجال، وهم أصحاب عقول ونحن أصحاب عقول. إننى وغيرى كثيرون لا نحب أن نكون فى زمرة القائلين «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا».
وهذا ما سعينا إليه على مستوى الخطاب الدينى فى كتابنا «نحو تأسيس عصر دينى جديد» من أجل أن كل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التى أعلنها القرآن، جهد بشرى قابل للمراجعة، وهو فى بعض الأحيان اجتهاد علمى فى معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفى كل الأحوال، سواء كانت موضوعية أم مغرضة، ليست هذه الآراء وحيًا مقدسًا، بل آراء بشرية قابلة للنقد العلمى.
والعقل الدينى ليس هو الدين نفسه فى نقائه الأصلى، بل هو عقل تكون عبر التاريخ، وإذا كان الدين فى نقائه الأصلى إلهيًا، فإن العقل الدينى هو عقل إنسانى يتكون فى التاريخ وتدخله عناصر إلهية وعناصر اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها ويتأثر بدرجة وعى الإنسان فى كل مرحلة. وتطوير العقل الدينى، بما فيه من مكونات لعل من أهمها علم أصول الدين، غير ممكن دون تفكيكه، وبيان الجانب البشرى فيه.

لا تكوين لعقل دينى جديد دون تغيير طرق التفكير وتجديد علم أصول الدين:

يشمل تطوير العقل جوانب خمسة حاكمة له تطويرًا عقلانيًا نقديًا بطريقة منظمة، وهى: أولًا- تطوير العقل النظرى، ثانيًا- تطوير العقل الدينى، ثالثًا- تحرير ملكة الوجدان، رابعًا- إصلاح طريقة عمل الطاقة الغريزية، خامسًا- تطوير العقل العملى.
ومن أهم الشروط القبلية لتكوين عقل دينى جديد:
أولًا- إصلاح طريقة التفكير:
لأن العقول التى ضللتها الأهواء عن البرهان والحجة العقلية لا يمكن أن تستقيم دون إصلاح ماكينة تفكيرها قبل أى شىء. إن طريقة التفكير هى المنهج، وكما قلت فى موضع آخر: «المنهج عبارة عن الإجراءات التى تتبعها فى تفكيرك وخطوات الاستدلال التى تسير عليها، ففى عملية الاستدلال توجد خطوات، حيث تسلمك الخطوة الأولى للخطوة التالية، فمن الممكن أن تعرض الفكرة الإيجابية على شخص يفكر بطريقة سليمة، وتعرض الفكرة الإيجابية نفسها فى الوقت ذاته على إرهابى من داعش، فهل سوف يتعامل الاثنان بالطريقة العقلية نفسها مع الفكرة ذاتها؟ بطبيعة الحال لا. فالفكرة الإيجابية التى يستقبلها صاحب طريقة التفكير السليمة سوف تجعله يصل إلى نتائج وأفكار تنمية وتطور، ومشاركة اجتماعية، وروح الفريق الواحد.. إلخ، بينما الفكرة الإيجابية التى يستقبلها العقل المتطرف صاحب طريقة التفكير الخاطئة سوف يترجمها هذا العقل المتطرف بطريقة باطلة، وسوف يصل لنتائج مختلفة وأفكار دموية، وحرق، وقتل، أى أنه من الممكن أن تكون محطة البث واحدة وقوية وإيجابية ويبقى الخطر كامنًا فى كنه عقل من يستقبل هذه الأفكار، وطريقة تفكيره إزاءها! فطريقة استقبال العقل للأفكار وترجمتها بالاستنتاج والاستدلال، هى المحك وهى الفاصل فى النتائج وطبيعتها».
إذن لا بد - أولًا- من فتح العقول المغلقة وتغيير طريقة المتعصبين فى التفكير. فلن تستطيع أن تجعل إنسانًا متسامحًا وهو يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة ويجزم بأن الآخرين على باطل، ولن تستطيع بث أفكار عقل مفتوح فى عقل مغلق. فالعقل المغلق ليس مجهزًا لاستقبالها مثلما أن التلفاز الأبيض والأسود ليس مجهزًا لاستقبال محطات البث الفضائى HD.
ثانيًا- رؤية العالم World View:
فلن تستطيع أن تجعل طائفة متسامحة وهى تعتقد أن الكون يقوم على لون واحد وليس ألوانًا متعددة، ولن تستطيع أن تقنع إنسانًا بالتسامح وهو يعتقد أن الله يريد أن يكون الناس كلهم نسخًا من بعضهم بعضًا، أو أن مشيئة الله تعالى تريد الناس متطابقين وليسوا مختلفين. ولن تستطيع أن تؤثر فى إنسان يعتقد أنه مفضل عند الله على العالمين لمجرد نطقه وتلفظه ببعض الكلمات، أو لمجرد ولادته ضمن طائفة معينة.
إذن لا بد من العمل على تغيير رؤية العالم وتجديد فهم العقائد فى الأديان. ولن تتغير رؤية العالم إلا إذا جعلنا الكون نفسه كتابًا مقدسًا واحدًا مشتركًا بين الأديان المختلفة كتبها المقدسة، فإذا كانت الكتب المكتوبة المقدسة متنوعة بين الأديان، فإن هناك كتابًا مقدسًا يجب ألا يختلف عليه اثنان، وهو الكون نفسه بوصفه صناعة إلهية، وأعمال الله البادية فى كتابه الكونى تكشف عن التنوع والتعددية إلى ما لا نهاية بقدر اتساع الألوهية إلى ما لا نهاية. ولا توجد فى هذا الكتاب الكونى مخلوقات أو ظواهر تشكل نسخًا واحدة متطابقة بدرجة مائة فى المائة، مما يدل على أن التنوع والاختلاف والتعددية هى الأساس فى الكون. ولا شك أن قوانين الله فى الطبيعة تقوم على التنوع لكن لا يوجد قانون يعرض قانونًا آخر، كلها تعمل فى منظومة نسقية خلاقة.. (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) سورة النحل: آية ٨.
وهذه الرؤية الفلسفية للأعمال الإلهية فى كتابه الكونى المقدس، إذا ما تمكنت من العقول فإنها سوف تفتح الأبواب واسعة ليس فقط على مستوى رؤية العالم، بل على مستوى تجديد فهم العقائد فى الأديان، الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى فتح العقول والنفوس والضمائر أمام فكرة تقبل الآخر مهما كان مختلفًا عنى وعنك، ويؤدى إلى اتساع سبل السلام أمام التسامح مع التعددية والتنوع الثقافى والحضارى والدينى والعرقى، وغلق الطرق أمام الكراهية لمجرد الاختلاف، وسد المنعطفات أمام العنف لمجرد المنافسة.
وبقدر ما فى الكون من تعددية يكون اتساع عظمة الخلق الإلهى، وبقدر ما فى الوجود من تنويعات لا حصر لها يكون تنوع إبداع الألوهية اللامتناهى.
وبالمِثل- ولله المثل الأعلى فى السماوات والأرض وما خارجهما- يمكن التأكيد أنه بقدر ما يكون فى المجتمع من انفتاح وتنوع واختلاف تكون قوة المجتمع وتكون قوة الدولة ويكون ارتقاء ورقى الشعب، بشرط قدرة المجتمع على «إدارة الاختلاف» فى منظومة نسقية خلاقة.

كيف يتم افتتاح عصر دينى جديد؟
لكى نقوم بإحداث نهضة فلا بد من الرجوع إلى فلسفة التاريخ، وهى تكشف عن أن عصور الانتقالات الكبرى لا تتم إلا بتغيير طرق التفكير، وهو ما قام به الأنبياء الكبار والفلاسفة والمصلحون الدينيون والقادة السياسيون الكبار.
إذا كانت المعركة بين العقل القديم والعقل الجديد تقوم فى أحد مظاهرها على «صراع التأويلات»، فإنها لن تحسم إلا لمن يتمكن من الانتصار فى معركة تغيير «طرق التفكير»، فالمعارك فى كل عصور الانتقال من عصر قديم إلى عصر جديد، كانت معارك بين طرق التفكير التقليدية وطرق التفكير الجديدة.
ولذلك عملنا فى جامعة القاهرة على تطوير العقل وتغيير طرق التفكير، ومن أهم وسائلنا مقررا التفكير النقدى وريادة الأعمال ومبادرة تطوير اللغة العربية، وإطلاق مشروع التنمية الاقتصادية والإصلاح الدينى وإطلاق مبادرة خذ كتابًا وتطوير الامتحانات، إلخ.
وحتى الآن نجد أننا إما لدينا فريق يريد تقليد الماضى، والماضى المقصود به ماضى آبائنا، وإما لدينا فريق آخر يريد تقليد الغرب. فعلى سبيل المثال عندما ألف الدكتور زكى نجيب محمود كتابه «شروق من الغرب»، كان يرى أن حدوث النهضة يقتضى أن نقوم بتقليد الغرب فى كل شىء. ورد عليه الشيخ الغزالى عليه رحمة الله فى كتاب آخر بعنوان «ظلام من الغرب». فالمسألة أصبحت إما.. وإما. فأنا أرى أنه لا الشرق ولا الغرب طريق النهضة، لأن فكرة التقليد نفسها هى فكرة مرفوضة. فكل عصر له ظروفه، وله معادلته، وله خصائصه. فالقرآن الكريم عندما يتكلم: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» (غافر:٨٢) لم يكن يقصد الأحداث، بل يقصد منطق التحول التاريخى.

تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين
عندما ظهر دعاة الإصلاح بداية من القرن التاسع عشر، ودعوا إلى التحديث والإصلاح الدينى لم يقم أى منهم بمحاولة «تطوير علوم الدين»، بل قاموا بـ«محاولة إحياء علوم الدين»، كما تشكلت فى الماضى، وكأن النهضة تحدث بإحياء العلوم القديمة، على الرغم من أن العلوم القديمة هى علوم بشرية نشأت لكى تواكب العصر الذى وجدت فيه من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالى قد لا تكون مناسبة لعصور أخرى لها ظروفها وواقع حياتها الذى قد يتباين تباينًا جليًا عن سابقتها.
إن العلوم التى نشأت حول الدين علوم إنسانية، تقصد إلى فهم الوحى الإلهى. فالقرآن الكريم إلهى، لكن علوم التفسير والفقه وأصول الدين وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل... إلخ علوم إنسانية أنشأها بشر، وكل ما جاء بها اجتهادات بشرية، ومن ثم فهى قابلة للتطوير والتطور. وهذه مسلمة واضحة وليست اكتشافًا، لكن المتعصبين الذين تجمد عقلهم، وتجمد معه كل شىء، رفضوا الاجتهاد، وتمترسوا خلف التقليد. وهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا، أن من المنطق الفاسد والخلط الزعم بأن أى علوم شرعية هى مبادئ وقواعد يقينية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة، والحقيقة تتكشف تدريجيًا، ولا تأتى دفعة واحدة إلا من خلال «وحى»، بل إن الوحى نفسه جاء منجمًا عبر ثلاث وعشرين سنة، وترك مساحة للجهد البشرى فى اكتشاف الحقائق والوقائع فى الكون، بل أيضًا فى استنباط الأحكام الشرعية.
وعلى ذلك، فكل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التى أعلنها القرآن، جهد بشرى قابل للمراجعة، وهو فى بعض الأحيان اجتهاد علمى فى معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفى كل الأحوال- سواء كانت موضوعية أم مغرضة- ليست هذه الآراء وحيًا مقدسًا، بل هى آراء بشرية قابلة للنقد العلمى والتمحيص.
وبالتالى، فأنا أدعو إلى تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين. فقد بات من الضرورى تفكيك الخطاب التقليدى، والبنية العقلية التى تقف وراءه، وتأسيس خطاب دينى، وأصبح يمثل ذلك حاجة ملحة. فهناك فرق بين الخطاب الدينى والنص الدينى، فالنص الدينى هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. أما الخطاب الدينى فهو عمل بشرى فى فهم القرآن والسنة يمكن إعادة النظر فيه. ويجب أن نعيد تفكيك هذا النص البشرى لكى نعيد بناء العلوم. تطوير علوم الدين، بما فيها من ضرورة تجديد علم أصول الدين وعدم التركيز على الفقه فقط.

الواقع الحالى للعلوم الدينية
يوضح الواقع الحالى الذى نعيشه حتى الآن أن العلوم الدينية التى نشأت حول النص الدينى تجمدت وابتعدت عن مقاصده، وتم تحويل النص الدينى من نص «ديناميكى» يواكب الحياة المتجددة إلى نص «استاتيكى» يواكب زمنًا مضى وانتهى. فالقرآن الكريم نص مرن يواجه العصر الحالى، ويواكب المتغيرات المعاصرة، وهو ما يتضح من خلال نزول القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عامًا، ومع ذلك نجد الآن أن المفاهيم التى نشأت حول القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تجمدت وتحولت إلى نص ثابت.
ومن ناحية أخرى، نجد أن الإصلاحيين المعاصرين لم يقوموا بالعودة إلى الكتاب فى نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التى أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، واعتبروا أن كل الكتب القديمة هى كتب مقدسة، وهى تمثل المرجعية النهائية فى فهم الدين، مع أنها فى النهاية هى عمل بشرى.
وإذا استعرضنا ما تم خلال المائتى عام الماضية، فسنجد من ناحية أن كل علمائنا استعادوا كل المعارك القديمة، معارك زمن الفتنة الكبرى التى نشأت أيام عثمان بن عفان رضى الله عنه، ونحن لا نزال نعيش فى زمن الفتنة وعصرها، عصر الصراع، والانشقاق، والتكفير، والتفجير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد، ومعارك التمييز بين الجنسين. وفى المقابل نجد أنهم لم يدخلوا بعد المعارك الجديدة والمعاصرة، معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية، ومعارك الدفاع عن الدولة الوطنية.

للتجديد دائرة معرفية أخرى
كل من يعيشون فى الخطاب القديم من الداخل، لن يمكنهم تأسيس عقل دينى جديد أو خطاب دينى جديد، ولا حتى يمكنهم تجديد القديم إلا بالتهذيب أو الاختصار أو الانتقاء أو الشرح، لكنهم فى الجوهر يظلون أسرى القديم فى مناهجه ومفاهيمه وتصوراته، وما التجديد عندهم فى كثير من الأحيان إلا إبعاد لتيار قديم واستدعاء لتيار قديم آخر؛ لأنهم ببساطة ينظرون من الداخل، وحدود رؤيتهم مقيدة بإطار البناء من الداخل، ومحكومة بالمنهجيات التقليدية وطرق التفكير الموروثة والسارية.
ولذا أكاد أجزم- على مستوى الخطاب الدينى- أن التجديد لا يمكن أن يأتى من المؤسسات الدينية الكلاسيكية فى أية بقعة من العالم، إلا إذا كانت لديها القدرة على التخارج والتعلم من دائرة معرفية أخرى. يمكن أن تُحدث هذه المؤسسات تحسينًا أو تجميلًا هنا أو هناك، ويمكن أن تهدم حائطًا وتبنى حائطًا آخر، لكنها لن تستطيع أن تهدم بناءً كاملًا تعيش داخله!
والرأى عندى أنه لابد أن يأتى التجديد من دائرة معرفية خارجية أو قادرة على التخارج، وهذا ما وجدناه فى كل الأنبياء العظام والفلاسفة المبدعين، فإذا راجعت سير الرسل الكبار تجد أنهم حملوا رسائل من خارج الدائرة المعرفية لأقوامهم، وأنهم قبل الرسالة كانت لهم احتكاكات بدوائر معرفية خارجية؛ فالوحى لا يأتى عبثًا.
ولنضرب مثلًا بالفلاسفة الكبار الذين أحدثوا تغييرًا فى طرق التفكير، وعلى سبيل المثال الفيلسوف الإنجليزى هيوم والفيلسوف الألمانى كانط فى ثورتهما الفلسفية لتغيير طرق التفكير، كان مرجعهما من خارج حقل الفلسفة التقليدى، وهو العلوم الرياضية والطبيعية، وهو ما سبق تأكيده فى كتابى «العقل وما بعد الطبيعة» الصادر عام ١٩٩٠ من القرن الماضى.

هل يمكن تطوير العقل الدينى بدون تطوير اللغة؟
جمود اللغة أحد أهم أسباب عجزنا عن تطوير الخطاب الدينى؛ فكيف يمكنك التعبير عن فكر دينى جديد بمفردات وأساليب تعبير قديمة؟ وكيف يمكن لخطاب دينى أن ينمو وهو يعيش فى قوقعة لا تنمو؟ هذا أيضًا ما يجعلنى أؤكد مجددًا أن المؤسسات التقليدية لا يمكن أن تطور الخطاب الدينى، لأنها تستخدم اللغة القديمة بكل مفاهيمها، وتعيش فى الصدفة من داخلها، وهذه الصدفة نفسها لا تنمو!
إن تطوير اللغة هو أحد أهم أركان الدخول فى عصر جديد، ويجب أن تطال عمليات تغيير طرق التفكير تطوير اللغة؛ لأن اللغة لها دور فى نمو المفاهيم والتصورات ومن ثم السلوك. ومنهجية فهم اللغة تنعكس على الفكر مثلما ينعكس الفكر على منهجية فهم اللغة. هنا نعود مرة أخرى للعلاقة الديالكتيكية المتبادلة بين اللغة والفكر. والدليل على هذا ما تجده عند أهل الحَرف الذين يفهمون الكلام فهما حرفيًا جامدًا طبقًا لمعانيه القديمة، على عكس أهل المعانى الذين يفهمون الكلام وفق مقاصده وسياقه. وأتصور أن أحد أهم أسباب التطرف والتشدد هو طريقة فهم اللغة عند التيار المتشدد الذى يقف عند حدود الحرف وظاهر اللغة كما تشكلت قديمًا وعدم الالتفات إلى السياق التاريخى والاجتماعى للغة، فضلًا عن عدم الالتفات إلى المقاصد. وهم علاوة على ذلك يعيشون فى بيت قديم هو اللغة القديمة، ومن الطبيعى إذن أن يفكروا ويستدلوا طبقًا لمنطقها. ولِمَ نذهب بعيدًا فى التحليل النظرى؟ فيكفيك أن تقرأ لهم أو تراقب طريقتهم فى الحديث، فسوف تعرف على الفور أنهم يعيشون خارج التاريخ المعاصر، ولم يدركوا من الحداثة إلا قشورها، بل سوف تشعر بالاغتراب تجاه كلامهم وتجاه نمط تفكيرهم، وسوف توقن أن جسور الحوار منقطعة، لأنها مع أناس من عالم آخر. ولذلك سوف تجدهم يكفرون أى شخص يعيش فى عالم اللغة المخالفة لهم!
إننا لو ظللنا نعيش فى النسخة القديمة من اللغة بخاصة أو من التراث بعامة، وهذا هو حالنا الآن، فسوف يستمر توقف نمونا الفكرى فى الوجود. وإذا كان وجودنا لابد أن ينمو ويتطور فلابد من تطوير الصدفة التى تحتويه، فبدون نمو الصدفة لن ينمو الكائن الحى بداخلها. واللغة هى هذه الصدفة؛ إنها مسكن الوجود الإنسانى الذى تحدث عنه مارتن هيدجر.


الدراسات البينية وعدم النظر إلى علوم الدين كجزر منعزلة
لن يتحقق الخطاب الدينى الجديد بالصورة المأمولة إلا من خلال الدراسات البينية التى يسهم فيها أكثر من اتجاه علمى، فى إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالدراسات البينية هى التى تحقق الفهم المتكامل والشامل للظواهر التى تتم دراستها. ويبدو أن الخطوة الأولى للدراسة العلمية الجادة تتمثل فى الوقوف على أهم الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية فى البحث فى علوم الدين، والتى تتمثل فيما يلى:
- الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية فى البحث فى علوم الدين.
- الخلط بين المقدس والبشرى.
- علم التفسير القديم يقوم على الصواب الواحد، وليس على تعددية المعنى وتعددية الصواب.
- سيادة العقائد الأشعرية وتكوين رؤية جديدة للعالم.
- الخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية.
- عدم التمييز الإبيستمولوجى بين قطعى الدلالة من النصوص وظنى الدلالة «تعددية المعنى والصواب».
وهناك كذلك آيات ظنية الدلالة «تعددية المعنى والصواب»:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» (المائدة: ٦).
«وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (الذاريات: ٤٧).
«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» (البقرة:٢٢٨).
وفى ظنى الدلالة نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية بهما أشياء كثيرة تحتمل أكثر من معنى، فالقدماء كانوا يذكرون المعانى ويقولون إن هناك معنى واحدًا وصحيحًا، وباقى المعانى كلها خاطئة، أى أنهم قسموا العالم إلى أبيض وأسود، وإلى صواب وخطأ، فى حين أن هناك تعددية فى الصواب يجب أن يعيها العلماء والباحثون. فالآيات السابقة أمثلة للآيات ظنية الدلالة. وهناك كذلك أحاديث نبوية عديدة ظنية الدلالة، تحتمل أكثر من معنى.
ومن هذه الأمثلة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: «أن لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة» (متفقٌ عليه، واللفظ للبخارى).
- عدم التمييز الإبستمولوجى بين اللاتاريخى «الثابت»، والتاريخى «المتغير» فى الأحكام الشرعية.
- عدم التمييز بين الإسلام والمسلمين.
- غياب العقلانية النقدية.
- الرؤية الأحادية للإسلام.
- عدم التمييز بين الأحاديث النبوية المتواترة والأحاديث الآحاد.
وهنا يثار تساؤل مهم هو: لماذا كل هذا الخلط؟ ولماذا كل هذه الأخطاء المنهجية؟
تتمثل الإجابة عن هذا السؤال فيما يلى:
لأن من يقومون بكتابة الخطاب الدينى لديهم عقول مغلقة تقوم على منهجية نقلية يسيطر عليها وهم المسرح، مثل: «حدثنا- أخبرنا- ابن القيم قال..)، لا على منهجية نقدية كما سبقت الإشارة.
دور العلم الاقتصادى فى دراسة الظاهرة الدينية من وجهة نظرى أن الخطاب الدينى التقليدى، هو إنتاج لنمط الاقتصاد الرعوى، لأننا حتى الآن فى العالم العربى لانزال نعيش فى نمط الاقتصاد الرعوى المشكل للحياة والمحدد لأنماط العلاقة والتفاعل.