رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» داخل وحدات علاج ذوى القدرات بـ«الفن»: «هنا أجساد تعود للحياة»

رانيا
رانيا

بعد أن أخبرها الأطباء بأن ابنتها «روان»، ١٠ سنوات، لن تستطيع السير مرة أخرى، لإصابتها بالشلل، بعد سقوطها من الطابق الثانى بأحد منازل منطقة السيدة زينب، لم تيأس الأم الثلاثينية ماجدة بيشوى، واستشارت عددًا كبيرًا من الأطباء حتى تُخرج ابنتها من الحالة النفسية السيئة التى تعيشها.

وفى أحد الأيام قرأت الأم إعلانًا عن طبيبة تعالج ذوى الإعاقة باستخدام الفن، وبالفعل اصطحبت ابنتها وزارت الطبيبة، وهناك تغير كل شىء، وأصبحت «روان» واحدة ضمن الكثير من ذوى الإعاقة الذين أنقذهم العلاج بالفن من فقدان الأمل.

وباتت تلك الطريقة الحديثة تستخدم لتعزيز الحالة النفسية لذوى الاحتياجات الخاصة وتنشيط حركتهم، عبر استخدام الرسم أو التلوين أو الموسيقى أو النحت أو الفن التشكيلى فى مساعدة تلك الفئة على التعبير عن أنفسهم فنيًا، من خلال صورة أو لحن أو مجسم مصنوع، وأدخلتها مؤسسات حكومية، وعلى رأسها وزارة التضامن الاجتماعى، فى كثير من مؤسساتها التأهيلية.

فى السطور التالية، تلقى «الدستور» الضوء على تلك الطريقة الحديثة، وتناقش المعالجين، وتنقل قصص أجساد أحياها الفن.

يسرا أشرف: هزمت «الشلل الدماغى» بالرسم.. ولوحاتى مصدر رزقى
يسرا أشرف، من ذوى الإعاقة، ولدت مصابة بمرض «الشلل الدماغى»، وظلت حتى السابعة من عمرها لا تتحرك تقريبًا، فقط تشير بذراعها اليمنى ببطء شديد، لكنها وبمساعدة الرسم تعافت بشكل شبه كلى من المرض. عندما أتمت «يسرا» السابعة من عمرها كانت تقضى الكثير من وقتها فى مشاهدة فيديوهات فنية لأطفال من ذوى الاحتياجات الخاصة، يرسمون ويغنون، فقررت استغلال حركة ذراعها البسيطة فى تقليدهم، ولم تكن تدرك حينها أن الفن سيعالجها من «الشلل الدماغى»، وستشارك بلوحاتها فى الكثير من المعارض.
وبالفعل أصبحت إحدى المستفيدات من تلك الطريقة المبتكرة فى العلاج، تقول: «أحببت الرسم من فيديوهات كنت أشاهدها على الإنترنت، وطلبت من والدى توفير أدوات الرسم لى، وبدأت فى تقليد ما شاهدته».
وأضافت: «رغم أن ذراعى فقط هى التى كانت تتحرك، لم أملّ من محاولة الاحتفاظ بقلم الألوان لوقت طويل حتى لا يسقط من يدى الضعيفة، ومع الوقت حفزنى الرسم على تحريك ذراعى ومن بعدها جسمى، حتى أصبحت الآن أحرك جسمى كاملًا بفضل الفن».
وتابعت: «كنت أذهب لطبيب نفسى لمتابعة علاجى، وشجعنى على الاستمرار فى الرسم عندما وجد استجابة جسمى له، وبعد فترة بدأت أساعده فى جلسات العلاج بالفن التى كان يقدمها للأطفال المرضى فى عيادته».
وكشفت عن أنها ساعدت ١٣ طفلًا من ذوى الاحتياجات الخاصة، وتمكنت من تعليمهم العديد من الأنشطة الفنية، قائلة: «قرأت الكثير من الكتب فى علم النفس، وقررت مساعدة باقى الأطفال الذين يعانون من تأخر عقلى وفكرى، ولأن جميع الأطفال يحبون الرسم والتلوين كان التعامل معهم سهلًا وممتعًا، وحصلت على ردود أفعال جيدة من أولياء أمورهم بعد فترة علاجهم».
وبعدما ساعدت طبيبها فى علاج الأطفال لمدة عامين، بدأت، منذ عام ونصف العام، بعد إنشاء صفحة خاصة بها على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، علاجهم بنفسها بناءً على التجربة التى مرت بها وساعدتها فى العلاج بشكل شبه كامل من «الشلل الدماغى»، مختتمة حديثها بالقول: «تحول الفن من علاج إلى عمل أكسب منه رزقى، وتخصصت فى رسومات الجالاكسى، وشاركت فى ١٣ معرضًا فنيًا، منها معرض فى الأردن، وحصلت على الكثير من الجوائز وشهادات التقدير».

مجمع الإعاقة: جلسات غناء وعزف يومية تسهم فى تنمية الحركة والذهن.. ولمسنا تغييرات إيجابية كبيرة

أولى المؤسسات الحكومية التى كان لها السبق فى استخدام الفن لتأهيل ذوى الإعاقة هو مجمع خدمات الإعاقة الشامل بعين شمس، الخاص بتأهيل ومساعدة جميع ذوى الاحتياجات الخاصة، ويتبع وزارة التضامن الاجتماعى، فهو يضم ٢٧ وحدة تخدم أصحاب الإعاقات، إحداها تسمى «وحدة العلاج بالفن»، حيث يعقد فيها المجمع جلسات خاصة للمعاقين من أجل ممارسة جميع أنواع الفنون.
وكشفت سحر حسين، مديرة مجمع خدمات الإعاقة الشامل، عن أن المجمع أنشئ فى عام ٢٠١٧، وبعد افتتاحه بـ٣ أشهر بدأ العمل فى «وحدة علاج ذوى الإعاقة بالفن»، التى لا تزال تقدم خدماتها لذوى الاحتياجات الخاصة منذ ذلك الوقت.
وقالت مديرة المجمع: «نبتكر وحدات جديدة دائمًا لخدمة ذوى الإعاقة، ومن بينها وحدة الفن، التى جاءت فكرتها، بناءً على اقتراحات الأطباء، الذين رأوا ضرورة توظيف طاقات الأطفال المصابين بالتوحد وأنواع أخرى من الإعاقة فى إطار الفن».
وأضافت: «أنشطة الوحدة، سواء الرسم أو الموسيقى أو الغناء، تخفف من حدة المرض وتحرك عضلات الجسد بشكل دائم، حتى يعتاد المريض على الحركة»، مشيرة إلى أن الوحدة أسهمت فى اكتشاف مواهب كثيرة من ذوى الإعاقة، وجرى علاجهم بالفن.
وكشفت عن أن أنشطة وحدة العلاج بالفن تتضمن عقد جلسات للرسم والعزف والغناء وتشكيل المجسمات، يوميًا من الثامنة صباحًا حتى الثالثة عصرًا، مبينة أنه لا توجد إقامة للمعالجين بالفن، بل يحضرون الجلسات فقط، وأن الأمر يبدأ بقدوم الحالة إلى المجمع، ثم تخضع للتشخيص من قبل اللجنة الفنية، ويحدد الأطباء النفسيون والإخصّائيون الاجتماعيون وأطباء مخ وأعصاب مستوى القصور، وإذا احتاجت الحالة علاجًا بالفن تلحق بالوحدة.
وأضافت: «لمسنا تغيرات إيجابية كبيرة فى حالات المعاقين الذين يشاركون فى أنشطة الوحدة، لذلك عملنا على زيادة أنشطة الوحدة وتوسيعها، لأن العلاج بالفن ينمى جوانب كثيرة لدى ذوى الإعاقة، منها الجوانب الحركية والذهنية أيضًا».
وبينت أن العلاج بالفن يقلل الأعراض، التى تمنع ذوى الاحتياجات الخاصة من ممارسة حياتهم بشكل طبيعى، مثل الإعاقة الحركية، أو التركيز الذهنى، ونعتمد فى جلساته على العلاج الحسى والوظيفى والتخاطب وتنمية المهارات، وذلك بهدف تحسين قدرة المعالجين على التركيز واستخدام الأطراف والأعصاب، باستخدام أدوات الرسم، وهى مهارات تساعد ذوى الإعاقة على تخطى مشكلاتهم.

دوريس خزام: عالجت إصابات الحروب باستخدام الصلصال والرمل

استطاعت دوريس خزام، الحاصلة على بكالوريوس الإرشاد النفسى من الدنمارك، المتخصصة فى علاج الصدمات النفسية، مساعدة طفلة سورية لاجئة انتقلت إلى مصر، ولم تكن سنها تتجاوز ٤ سنوات، أصيبت بـ«بكم مرضى» نتيجة ما شاهدته من عنف وقتل فى بلدها. وبدأت الطفلة تتفاعل مع معالجتها، التى اعتمدت على العرائس والرسم فى تخليصها من مرضها النفسى، وذلك من بين مجموعة أطفال ولاجئين أصيبوا بإعاقات نتيجة ما حدث فى سوريا، وذلك باستخدام الرسم.
وقالت «دوريس»: «فى عام ٢٠١٤، بدأت المشاركة فى مشروعات لخدمة الناجين من الحرب، خاصة الأطفال والسيدات الذين يعانون من صدمات الاعتداء الجنسى والعنف، وأصيبوا بإعاقات خاصة».

وبينت أن الطفلة السورية، ذات الـ٤ سنوات، التى كان يشتكى أهلها من عنفها الزائد وإصابتها بـ«البكم»، بدأت معها العلاج بجلسات الرسم والعرائس، وبعد أسابيع من العلاج بدأت تعبر عن مشاعرها، وبعدما كانت تستخدم لغة الإشارة بدأت تعبر بكلمات بسيطة حتى تعافت تمامًا. وأضافت: «هناك الكثير من المنظمات الحكومية والخاصة فى مصر التى تهتم بالعلاج بالفن، ولا يقتصر الأمر على اللاجئين أو ذوى الاحتياجات الخاصة فقط، لكن هناك بعض الجمعيات تطبقه على أطفال الشوارع، بعد توفير مأوى لهم».
وقالت إن هناك الكثير من الفنون، التى تعالج بها ذوى الإعاقة، لكن تفضل أن تجعل الأطفال يلعبون بالصلصال والرمل، وأن تجعل ذوى الإعاقة من الكبار يرسمون، لأن هذه الأنشطة تفتح بابًا لخروج مشاعرهم دون علم منهم، ما يمكن الأطباء من اكتشاف أمراضهم النفسية، وبالتالى علاجهم.

رانيا عصمت: الطرق التقليدية غير مجدية.. وأطفال طبيعيون يحضرون الجلسات لتحقيق الدمج

تخرجت الدكتورة رانيا عصمت، إحدى معالجات ذوى الإعاقة بالفن، فى كلية الفنون الجميلة «قسم جرافيك»، وحصلت على الدكتوراه منها، وتعتبر أول من اتجه فى كليات الفنون الجميلة لعلاج الأطفال ذوى الإعاقة بالفن.
وقالت «عصمت» إن «علاج الأطفال بشكل عام متشعب، ويحتاج إلى دراسات»، وعلى المستوى الشخصى أجرت ٨ أبحاث عن علاج الأطفال بالفن، لكن بداية الفكرة لديها كانت «صدفة».
وأوضحت: «اعتدت على النزول إلى ملاجئ الأطفال وزيارتهم كعمل خيرى، فبدأوا يعتادون على وجودى ويطمئنون لى بشكل كبير، واكتشفت أن هناك وسائل اتصال مهمة غير العلاج التقليدى، فالطفل المصاب بالبكم مثلًا، كنت أتواصل معه بالرسم، ويتطور هذا التواصل فيما بعد».
وبينت أن أول جلسة تكون بمثابة اختبار للطفل، كى يتم التعرف على قدراته ومدى إدراكه، والحركة الخاصة به ونسبة التشتت، مشيرة إلى أن التعامل مع الأطفال مختلف، فالأطفال المصابون بـ«التوحد» مثلًا يختلفون عن المصابين بإعاقات حركية. وأضافت: «هناك اختبارات للألوان، فبعض الأطفال لا يعرفون سوى الأبيض والأسود، وأطفال آخرون يرسمون فقط ولا يفضلون التلوين رغم أهميته»، معقبة: «لازم أعرف الإمكانيات والنواقص عشان أشتغل عليها مع الطفل وأهله».
وشددت على أن «الطرق التقليدية غير مجدية، والأطفال لا يحبونها، بعكس استخدام الفن الذى يمكن من خلاله اختيار نوع إبداعى معين مع كل حالة، مثل الرسم مع مرضى التوحد»، مشيرة إلى أنها صنعت رسومًا تعبيرية خاصة وتطبيقات للأطفال المعاقين، منها «كوتشينة رسوم»، كى تكون محببة لهؤلاء الأطفال. وكشفت عن حرصها على وجود أطفال طبيعيين فى جلسات العلاج، قائلة: «لازم خلال الجلسات أجيب أطفال طبيعيين عشان الطفل ذوى الإعاقة يحس بأنه اندمج معاهم ويتعلم منهم». وحكت: «كان فيه أم عندها بنت مصابة بالتوحد، البنت من ساعة ما اتولدت مالهاش أى ردود فعل، لكن بعد حضورها جلسات العلاج بالفن بدأت يكون عندها استجابة بشكل طبيعى، ووالدتها لاحظت ذلك».

رانيا محمود: أنقذت ٨٠ حالة.. «اختبار صور» يحدد العلاج المناسب.. ونساعد السيدات الكبار فى السن

لم تختلف رانيا محمود، معالجة بالفن لذوى الإعاقة، عن سابقتها، واستطاعت من خلال دراستها للفنون الجميلة وحصولها على دبلومة فى علم النفس، علاج أكثر من ٨٠ حالة باستخدام الفنون المختلفة.

وقالت «رانيا»: «الفنون قادرة على علاج الأمراض النفسية، لذا خصصت كليات الفنون كورسات فى العلاج بالفن، وكيفية اكتشاف الأمراض النفسية من خلال تحليل الرسم، وهى الكورسات التى حصلت عليها بعد انتهاء دراستى فى كلية الفنون الجميلة، لأقرر بعدها معالجة الأمراض النفسية بالفن».

وعن مراحل اكتشاف المرض واختيار الفن المناسب له، بينت «رانيا»: «عندما يأتى ذوو الإعاقة لتلقى العلاج فى المركز نخضعهم لاختبار بالصور، فنضع أمامهم مجموعة منها ونطلب منهم وصف ما يرون. الصور التى نقدمها للأطفال تختلف عن الكبار، وبناءً على نظرة المريض لهذه الصور نحدد نوع الاضطراب الذى يعانى منه، ونحدد عدد الكورسات اللازمة، والفن الذى سيتم علاجه به، لأن كل شخص يسقط مشاكله الداخلية على الصور التى يراها».
واستطاعت «رانيا» خلال دراستها للفن ودورات علم النفس التى حصلت عليها، اكتشاف الكثير من المشكلات النفسية، التى يعانى منها الأطفال ذوو الإعاقة، التى غالبًا ما يكون السبب وراءها هو الأهل، وعالجت أكثر من ٨٠ شخصًا تبدأ أعمارهم من سن ٨ سنوات حتى السيدات الكبار فى السن، من خلال كورسات العلاج بالفن فى بعض المراكز الخاصة والجمعيات الخيرية.
وقالت إن ورش العلاج لا تقتصر على الرسم، وإنما تختار كل حالة الفن الذى يناسب رغباتها، فهناك من يفضل الصلصال الأسوانى، أو تصميم العرائس، أو الرسم الحر، أو التفصيل. وأضافت: «تلقيت كثيرًا من ردود الفعل الإيجابية من أولياء الأمور، الذين أكدوا قلة حدة العنف والعصبية لدى أطفالهم بعد علاجهم بالفن».
وأشارت إلى أن عدد الحالات فى الورشة الواحدة لا يزيد على ١٠ أفراد، حتى يستطيع المعالج التعامل مع كل حالة بتركيز، مختتمة: «لا يقتصر العلاج على الرسم وغيره من الفنون فقط، وإنما نتحدث معهم عن مشاكلهم ونحاول مساعدتهم فى تخطيها».