رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكريات حاج كيف يستقبل اهل الله ضيوفه؟


هلّت علينا أيام قال عنها النبى صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعنى أيام العشر، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد فى سبيل الله؟، قال ولا الجهاد فى سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشىء»، فالأجر فى هذه الأيام مضاعف والثواب فيها أعظم من غيرها، وهنيئًا لمن كتب له الحج فيها، فليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة.

وقد كتب لى الله تعالى الحج فى كثير من الأعوام، منذ حججت للمرة الأولى قبل ٢٥ عامًا، والحج هو من أعظم الرحلات، فرغم كثرة رحلاتى وأسفارى إلى دول كثيرة، فإننى لا أجد فيها من المتعة والسعادة مثل رحلة الحج، وعشت فى الأراضى المقدسة أجمل أيام حياتى، وخرجت منها بأفضل صحبة.


فى جميع رحلات الحج كنت حريصًا على توثيقها ليس اعتمادًا على ذاكرتى، ولكن من خلال تدوينها كتابة فى «كراسة» كنت أحملها معى، لأسجل كل المشاعر التى أمر بها، وأعيش مع ما قابلته من مواقف ومشاهدات مليئة بأعظم الدروس والعبر.

ومما استنتجته على المستوى الشخصى، ومن خلال القصص التى رواها لى أكثر من شخص قابلته فى موسم الحج، هو أن الله تعالى يختار عباده للحج فيذلل لهم العقبات، بل إن قصتى الشخصية دليل على ذلك، فعندما بدأت الالتزام فى أداء الصلاة كنت فى سن ١٦عامًا، وكنت فى هذه السن الصغيرة أتمنى الحج وأبكى شوقًا عندما أرى الحجيج على عرفات.

واستجاب الله لى بعد ١٤ سنة وتحديدًا فى سنة ١٩٩٥، ولذلك قصة. فقد كنت فى العام السابق ١٩٩٤ فى الجامع الأزهر، وكان الخطيب آنذاك، الشيخ إسماعيل صادق العدوى، من كبار علماء الأزهر، كان يقول للناس: هل تتوق أنفسكم للحج، هل تحدثون أنفسكم بأنكم تتمنون أن تكونوا بين الحجيج فى العام القادم؟، وهو يستشهد بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام، العشر الأوائل من ذى الحجة، قالوا ولا الجهاد فى سبيل الله قال ولا الجهاد».

كان النبى يقول ذلك للصحابة وهو فى المدينة، قبل أن يرزق الله الصحابة الحج العام التالى، وكأن الحديث موجه للمسلمين الذين لا يحجون، والنبى كان يصوم العشر الأوائل من ذى الحجة، ويصل رحمه، ويكثر العمل الصالح، ويتصدق ويذكر الله كثيرًا.

فقال الشيخ إسماعيل فى خطبته: من يعبد الله ويكثر العبادة فى هذه الأيام ويصدق مع الله، أتمنى على الله أن يرزقه الحج العام المقبل، وبالفعل فعلت هذا وأكثرت من العبادة والدعاء وذكر الله، وببركة العشر الأوائل ذهبت للحج العام المقبل، حيث اتصل بى صديق وقال لى: «أنت مش نفسك تحج قلت أتمنى، قال أنا سأستخرج لك الفيزا ومعك كم فلوس قلت معى كذا قال لى ستحج وربنا سيكرم وبالفعل حججت فى ذاك العام».

فعلى المسلم أن يعبد الله ليس طمعًا فى عطائه، ولكن حبًا فى رضائه، وكما قيل: «اعبده ليرضى لا ليعطى، فإنه إن رضى أدهشك بعطائه»، إذ إن الحج دعوة بإذن الله، وليس بـ«الفيزا» والمال، فإذا اختارك الله لزيارة بيته فسوف تذلل لك الأمور كلها، وتقف ملبيًا بين الحجيج.

وهذا ما حدث مع حارس عقار كان وهو ساجد يدعو بتأثر بالغ: «يا رب أحج يا رب أحج»، ومن فرط صدق دعوته ارتفع صوته وهو يدعو فى صلاة الجماعة، وبعدما فرغ من صلاته، وجد من يصلى بجواره يسأله: هل تريد الحج؟.. أنا سمعتك، وأنت تدعو بهذا، وأنا قنصل السعودية فى مصر أنتظرك غدًا لتحصل على الفيزا وستحج، وهذا يؤكد أن الحج دعوة، فأخلص فى دعوتك لله بالحج وسيرزقك الحج من حيث لا تحتسب.

والله تعالى يغدق على الحاج بكرمه وعطائه، عطاء يفوق قدرته على التخيل، فهناك مشاعر فى الحج تتواتر بين عدد كبير من الحجيج، وإذا تواترت المشاعر فى أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة فتصبح حينها قاعدة، لأن هذه المشاعر يقذفها الله فى قلوب الحجيج.

هذا فلاح مصرى بسيط خرج للحج وكنا فى طريقنا إلى مكة، رأيته وتعرفت عليه وإذا به يبكى وعندما سألته لماذا تبكى؟، قال: «عشان كلام النبى، أصل أنا أعطونى كتابًا أقرأه فرأيت فى الصفحة الأولى قول النبى (الحجاج والعمار وفد الله إذا سألوه أعطاهم وإذا دعوه أجابهم، تخيل يا دكتور أنا وفد الله.. أنا سيستقبلنى الله؟!)، فقلت له أنت عارف الناس اللى بيستقبلوها فى صالة كبار الزوار، قال هؤلاء الناس الأكابر، قلت له أنت ونحن الآن الأكابر حيث يستقبلنا الله ونحن وفده».

هذا الرجل أبكانى بهذا الشعور، وكنت أول مرة أفهم معنى حديث «الحجاج والعمار وفد الله»، حيث يقول تعالى «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا»، نعم سيستقبلك الله بكل ود.

ذكرى أخرى قصّها لى صديقى المهندس عبدالحميد، هو مهندس صوتيات، سألنى: ما أكثر اسم من أسماء الله الحسنى يتجلى فى الحج؟، قلت: لا أعلم، قال: اسم الله «الوهاب»، فهو الوهاب الذى يهب لك ويعطيك دون أن تستحق الذى إذا أعطاك أدهشك بعطائه الذى إذا فتح لك من خزائنه لا تعد ولا تحصى مالك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب.

فسألته: ما العبرة من تجلى اسم الله الوهاب فى الحج؟، قال وأنا كنت أؤدى الحج قبل ١٥ سنة، قلت يا وهاب ليس لى من المال ما يجعلنى آتى إليك مرة أخرى، لكنى أحببت أن آتيك كل عام أتوسل إليك أن تمنّ علىّ بالحج كل عام.. يا وهاب ارزقنى الحج كل عام.

سألته وماذا حدث بعد دعوتك تلك؟، قال: أنا لى ١٥ سنة حتى الآن وأحج كل عام فقلت وكيف حدث هذا؟، قال عندما عدت للقاهرة كانت هناك مسابقة، وتقدمت إليها وعينت مهندسًا للصوتيات بالحرم المكى، فأذهلنى الله بعطائه، والعجيب أننى أحج كل عام ولا أدفع أى مال، بل بالعكس أحصل على المال المتمثل فى راتبى.

وهذا شاب جزائرى اسمه «سامى» رأيته ونحن فى مطار جدة، والوفود كلها بالمطار، ونحن نقف لتفتيش الحقائب، وجدته يقول لصديقه: «تخيل لو أن هذه الشنط بها ذنوبنا كم كانت تزن؟!»، فأجابه صديقه: «لو هذه الشنط مليئة بالذنوب مكنوش دخلونا!»، فرد سامى قائلًا: «لكن الله أدخلنا رغم أنه يعلم أن ذنوبنا أضعاف هذا الشنط ولكنه أدخلنا ليغفر لنا ويسامحنا». فتأثرت بهذا الإحساس العالى لهذا الشاب الجزائرى وتعرفت إليه، فحقًا كم أنت كريم يا الله تهب وتغفر لنا كل الذنوب.

وعندما كنت داخل الحرم المكى أسأل نفسى: هل سيغفر الله لى؟ وكان بجوارى رجل من كبار أهل مكة، فوجدته يقول: هل أنت تحج بمفردك؟، قلت نعم، قال: «لا أنت لست بمفردك أنت معك شخص آخر سيعود كيوم ولدته أمه»، حقًا رأيت كرم الله وعطاءه يستقبلك استقبال الوفود ويغمرك بعطائه.