رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمام «السلام الاقتصادى».. ماذا نحن فاعلون؟



اختار «جاريد كوشنر»، مصمم وعراب صفقة التسوية الأمريكية الجديدة، وكالة الأنباء الشهيرة «رويترز»، لتكون منصته التمهيدية لإطلاق أول ظهور معلوماتى لما اصطلح على تسميته إعلاميًا «صفقة القرن»، وفعليًا أجرى مقابلة مع تليفزيون الوكالة كشف فيها عن الخطوط العريضة وبالأرقام لمشروع تسوية القضية الفلسطينية التى تتبناها إدارة الرئيس ترامب، وفوضت صهر الرئيس الأمريكى الذى يشغل منصب «مستشار» بالبيت الأبيض، كى يعلن عن حزمة اقتصادية مما تشتمل عليه الخطة عشية انعقاد ورشة العمل، التى استضافتها «المنامة» عاصمة مملكة البحرين، وفيها لم يكن هناك ربما كشف أوسع للشق الاقتصادى، بقدر ما كانت النقاشات لها طابع الترويج لما تحويه تلك الصفقة.
فضلًا عن المقابلة التليفزيونية الموجزة، أوردت الوكالة ما سمته باطلاعها على «وثائق» تخص خطة إدارة الرئيس دونالد ترامب الاقتصادية للسلام فى الشرق الأوسط، والتى قدر حجمها بـ«٥٠ مليار دولار»، حيث تدعو الخطة لإقامة صندوق استثمار عالمى لدعم اقتصاديات الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، بجانب بناء «ممر برى» بتكلفة ٥ مليارات دولار يربط ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة. بدا على عهدة وكالة «رويترز» أن تلك الوثائق التى تخص الخطة معنونة باسم «السلام من أجل الازدهار»، كما أوردت تحفظًا شرطيًا فى تنفيذها، باعتبارها لن تطبق إلا إذا تم التوصل لحل سياسى للمشكلات التى تعانى منها المنطقة منذ فترة طويلة. وهنا نحن أمام أول لوغاريتمات تلك الخطة التى يفترض أنه جرى طرحها، وأعدت المقابلة المذكورة كشفًا عن فلسفتها القائمة على «الاقتصاد أولًا»، فكيف سيكون تطبيقها مشروطًا بهذا الشرط، الذى لم يقل عنه حديث كوشنر غموضًا، وهو يصرح لتليفزيون رويترز أن: «الفكرة كلها هنا، هى أننا نريد أن يوافق الناس على الخطة، ثم نجرى بعد ذلك مناقشات مع الناس، كى نعرف من منهم مهتم بماذا»!.
لكن ما هو أكثر أهمية وإثارة من هذا الغموض الأمريكى، والتباس الخطة فى آلية طرحها، قبل البحث ومعرفة الموافقين عليها، ما أفصح عنه للمرة الأولى منذ خروج المصطلح الضبابى «صفقة القرن» للنور، وهى ميزانية الصفقة وسبل إنفاقها التى حدد البعض منها على النحو التالى: أنها تشمل إجمالًا «١٧٩ مشروعًا للبنية الأساسية وقطاع الأعمال»، منها «١٤٧ مشروعًا فى الضفة الغربية وقطاع غزة» و«١٥ مشروعًا فى الأردن» و«١٢ مشروعًا فى مصر» و«٥ مشروعات فى لبنان»، وأنه سيتم إنفاق أكثر من نصف الخمسين مليار دولار فى الأراضى الفلسطينية المتعثرة اقتصاديًا على مدى زمنى قدر بـ«عشر سنوات». فى حين سيتم تقسيم المبلغ المتبقى بين «مصر، ٩ مليارات دولار»، و«الأردن، ٧.٥ مليار دولار»، و«لبنان، ٦ مليارات دولار». فضلًا عن وجود إشارة، قد تثير السخرية إلى حد بعيد، من أن هناك تخصيصًا لمبلغ «١ مليار دولار» موجه إلى تطوير صناعة السياحة الفلسطينية، عبر استعادة وتطوير- وفق الخطة- المواقع التاريخية والدينية والمناطق الشاطئية. ويبقى فى النهاية أن أحد المشروعات الرئيسية المقترحة إقامة ممر لتنقل الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة يمر عبر إسرائيل. ويشمل ذلك طريقًا سريعًا مؤمنًا، وربما يشمل أيضًا فى مرحلة لاحقة مد خط للسكك الحديدية على ذات المسار لهذا الطريق.
مما ذهبت إليه الخطة من زاويتها الاقتصادية أنها تستهدف خلق مليون فرصة عمل، فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. وأنها عبر ذلك ستخفض معدل البطالة فيهما من نحو ٣٠٪ إلى ما دون ١٠٪، لتتمكن وفق هذه المعدلات من أن تخفض معدل الفقر لكليهما بنسبة النصف تقريبًا. ووفق ما ذكره جاريد كوشنر: «هى خطة عشرية، وإذا طبقت على النحو الصحيح سوف تضاعف إجمالى الناتج القومى عندهم، لقد طرحناها حتى الآن للمراجعة من قبل نحو ١٢ اقتصاديًا فى ١٢ دولة، ونحن سعداء للغاية بتقديمها ومشاركتها مع كثير من كبار قادة قطاع الأعمال، وكثير من المؤسسات الاستثمارية الكبيرة، ثم عندئذ مع الجمهور». ويرى كوشنر، إزاء ذلك الطرح، أن خطته المفصلة ستغير قواعد اللعبة، على الرغم من أن كثيرين من خبراء الشرق الأوسط وغيرهم ممن انخرط فعليًا فى جولات التسوية السابقة يرون أنه لا توجد أمامه فرصة تذكر للنجاح، حيث أخفقت جهود السلام التى دعمتها الولايات المتحدة على مدى عقود مضت. وقد أوردت «رويترز» نفسها نموذجًا لمثل تلك التقييمات المناهضة لتلك الخطة، على لسان «آرون ديفيد ميلر» وهو مفاوض سابق فى ملف الشرق الأوسط، وعمل مع إدارات أمريكية جمهورية وديمقراطية، قائلًا: «هذا خارج عن السياق تمامًا، لأن جوهر القضية الإسرائيلية الفلسطينية، يكمن فى جروح تاريخية ومطالبات متناقضة بالسيادة على الأرض، وعلى مواقع مقدسة».
وعلى الرغم من أن هناك شكوكًا عميقة حتى اللحظة فى استعداد الحكومات المانحة المحتملة لتقديم المساهمات المالية فى وقت قريب، فإن الخطة كشف فى «ورشة المنامة» عن أن هناك صندوق استثمار جديدًا، سيدير عملية التمويلات وأوجه الإنفاق المحددة، وسمى «مصرف للتنمية متعدد الأطراف». فى تجربة مماثلة لـ«خطة مارشال» التى نفذتها الولايات المتحدة عام ١٩٤٨. وإن كانت فى الخطة الفلسطينية تعتمد المبادرة المطروحة على إلقاء أغلب العبء المالى على دول أخرى.
ما ورد بالخطة فيما يخص الشق المصرى منها، وهو ما جاء ذكره فى «سيناء» على وجه التحديد، أن المشروعات المزمع إقامتها فيها، لها علاقة بتحديث خطوط الكهرباء من مصر إلى قطاع غزة، وإعادة تأهيلها لزيادة تدفق الكهرباء. كما تقترح استحداث طرق جديدة لتحسين استخدام المناطق الصناعية المصرية الحالية، لتعزيز حجم التجارة بين مصر وغزة والضفة الغربية وإسرائيل. وهى إشارات وإن بدت غائمة إلى حد بعيد، إلا أنها تحتاج إلى عقول باردة للتعامل مع تفاصيلها، ومع بعض مما يمكن اعتباره خادمًا للمصالح المصرية والتزاماتها أو من عدمه، ولهذا حديث آخر أظنه من الواجب إطلاقه الآن، لتحديد مواقع أقدامنا فيما نحن مقبلون عليه.