رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جدّات ضد اليمين.. وضد النمسا!


سيدات متقدمات فى العمر، من المفترض أنهن عانين، أو راقبن معاناة أمهاتهن وآبائهن من تبعات الحرب العالمية الثانية، ومن المفترض أيضًا أنهن شاركن فى بناء الديمقراطية فى النمسا. ومع ذلك، يتظاهرن، كل خميس، فى شوارع العاصمة، فيينا، ويطالبن بإسقاط الحكومة الحالية التى تشكلت بائتلاف حزبين حصلا على 57% من الأصوات.
تلك هى حركة «جدات ضد اليمين»، التى بدأت بمجموعة، أو «جروب»، على «فيسبوك»، أنشأتها مونيكا سالزر «71 سنة»، فى نوفمبر 2017، فور انتهاء الانتخابات البرلمانية، ثم تحولت المجموعة إلى حركة أو منظمة وصار لها فروع فى مختلف مناطق النمسا وألمانيا، وتصاعدت اعتراضاتها من مقاومة التمييز ضد المرأة، إلى الدفاع عن اللاجئين والأقليات ضد محاولات تشويههم وشيطنتهم، وصولًا إلى الاعتراض على الخطاب السياسى بوجه عام، ثم المطالبة بإسقاط حكومة سيباستيان كورتز، بزعم أنها «تريد تدمير كل ما بنيناه خلال الـ50 عامًا الماضية». وطبقًا لما أعلنته «الحركة» بعد اجتماعها السنوى، الشهر الماضى، فإن «الجدّات» بصدد تشكيل حركة «مقاومة» دولية ضد «تيار اليمين» فى مختلف أرجاء أوروبا وما وراءها.
بموافقة الرئيس النمساوى، ألكسندر فان دير بيلين، فى ديسمبر 2017، على الائتلاف الحكومى بين حزبى «الشعب» المحافظ، و«الحرية» اليمينى، أصبح «كورتز»، Sebastian Kurz، رئيس الحزب الأول «المولود فى 27 أغسطس 1986» مستشارًا للنمسا أو رئيسًا للحكومة. وكان «كورتز» الذى بدأ مسيرته السياسية سنة 2003 بانضمامه إلى حزب الشعب، قد اختير فى مايو 2017 رئيسًا للحزب الذى كان مشاركًا فى الائتلاف الحاكم مع الحزب الاشتراكى الديمقراطى. وبإنهائه لهذا التحالف، تمت الدعوة إلى انتخابات مبكرة، جرت بالفعل، فى أكتوبر 2017، وفاز فيها حزب الشعب بـ30.2%. وعليه، تحالف «كورتز» مع حزب الحرية اليمينى «الحاصل على 26.8%»، وتشكلت الحكومة.
جروب، حركة، أو مظاهرات الجدات، تعيدنا إلى تلك الأزمة التى حدثت سنة 2000، حين شارك حزب الحرية فى ائتلاف حكومى، حكومة وولفجانج شوسل، فكان أن خرجت مظاهرات شبيهة، بالتزامن مع قيام الاتحاد الأوروبى بفرض عقوبات على النمسا، وتعليق الإسرائيليين علاقاتهم معها لاتهامهم حزب الحرية بمعاداة السامية. وطبعًا، سيقودنا الكلام عن حركة المقاومة الدولية ضد تيار اليمين، إلى انتخابات البرلمان الأوروبى الوشيكة، التى يخوضها «حزب الحرية»، ضمن تكتل يمينى يضم حزب الرابطة الإيطالى، حزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب الشعب الدنماركى، وحزب التجمع الوطنى الفرنسى، الذى وعدت زعيمته مارين لوبان، فى فبراير الماضى، بأن البرلمان الأوروبى سوف «ينقلب رأسًا على عقب» بصعود الأحزاب المؤيدة للسيادة الوطنية التى ترى أن سلطات الدول لا بد أن تكون أكبر من سلطات بروكسل.
جانب آخر من الصورة قد يتضح، لو عرفت أن «كورتز»، اعتاد، منذ أن كان وزيرًا للخارجية «أى منذ 2013»، انتقاد سياسات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بشأن استقبال اللاجئين. وكان له الدور الأكبر فى إغلاق ما بات يعرف بطريق البلقان أمام المهاجرين، وطالب بخفض المساعدات الاجتماعية للأجانب. وكان لكورتز وحزبه دور كبير فى استصدار قانون يحظر ارتداء النقاب فى الأماكن العامة. كما لعب دورًا مهمًا أيضًا فى موافقة البرلمان النمساوى على تعديلات قانون صدر سنة 1912، جعل الإسلام بين الديانات المعترف بها رسميًا، وكان يسمح للمساجد وأئمتها، والمؤسسات الدينية الإسلامية إجمالًا بتلقى تمويل من الخارج.
التعديلات التى أيدها «حزب الشعب»، وأقرها البرلمان النمساوى، حظرت التمويل الأجنبى، واستند «كورتز» فى دفاعه عنها إلى أنها تستهدف مواجهة التطرف وتقليل النفوذ السياسى الخارجى ومنع دول أخرى من التحكم فى الشئون الداخلية، وأوضح: «ما نريده هو أن نمنح الإسلام الفرصة كى يتطور بحرية داخل المجتمع بما يتفق مع قيمنا الأوروبية المشتركة»، وبعد موافقة البرلمان قال إن ما يجعل إقرار هذه التعديلات «حدثًا مهمًا» فى تاريخ النمسا، هو أنها ستمنع دولًا إسلامية بعينها من أن تجنى بأموالها نفوذًا سياسيًا داخل البلاد. وكانت تركيا هى أبرز «الدول الإسلامية»، التى يقصدها وزير الخارجية النمساوى وقتها، المستشار، أو رئيس الوزراء الحالى.
.. وتبقى الإشارة إلى أن الحكومة النمساوية، الحالية، تحاول انتشال البلاد من مرحلة التهميش، وأن تستعيد ثِقَلها، الإقليمى والدولى. وترفض «الرقص على مزمار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب»، وطالبت الأوروبيين بالتوقف عن ذلك، واتباع سياسة أوروبية أكثر استقلالية. وبسهولة يمكنك ملاحظة أن حكومة «كورتز» تتحرك خارجيًا بمنتهى الاحترافية، تقاربت مع الصين وروسيا، وتحاول تطوير العلاقات بينهما والاتحاد الأوروبى، والأهم هو أنها بدت حريصة على تعزيز العلاقات المصرية النمساوية، وشهدت أول زيارة لرئيس مصرى إلى النمسا، منذ نحو ١٢ سنة.