رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: القرآن فى خيال الأديب

جريدة الدستور

فى إطار محاولة فهم الكيفية التى أثرت بها الحياة الشخصية لسيد قطب على نوعية الأفكار التى أنتجها فى حياته وأصبحت- بعد وفاته- زادًا للجماعات المتطرفة يصح الاستعانة بما كتبه «قطب» بقلمه ليصف به سيرة حياته. لدينا فى هذا السياق وثيقتان: الأولى كتابه «طفل من القرية» والذى يسجل فيه حياته فى الطفولة والصبا، ورواية «أشواك» التى يعدها الكثيرون الجزء الثانى من سيرته الذاتية. الجانب الأكثر تأثيرًا فى حياة سيد قطب-كما يتضح فى كتاب طفل من القرية- يتعلق بعلاقته وهو طفل بالقرآن الكريم، وهى العلاقة التى صاحبته آثارها عندما شب ونضج.
علاقة سيد قطب بالقرآن تمنحنا نموذجًا فريدًا على علاقة النص الكريم بخيال الأديب، وكيف تؤدى هذه العلاقة إلى إفراز نوع من «التدين الانفعالى» لديه. نبتة التدين الانفعالى كانت مغروسة فى البيت الذى تربى فيه سيد قطب من خلال عضوية أبيه فى الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل. يذكر سيد قطب فى كتاب «طفل من القرية» أن أباه كان عضوًا فى الحزب الوطنى ومداومًا على قراءة صحيفته. والحزب الوطنى تبنى-كما تعلم- نهجًا إسلاميًا واضحًا وكان من أبرز المؤسسات المدافعة عن الخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية. واستند إلى تبعية مصر للدولة العثمانية فى سياق المطالبة بجلاء الإنجليز على مصر. وهو الطرح الذى رفضه الوفد بعد ذلك، وكثيرًا ما كان سعد زغلول يتهم الحزب ورئيسه محمد فريد بالتطرف والبعد عن العقلانية فى إدارة الصراع مع الإنجليز، ويؤكد أن استقلال مصر يعنى رفع الحماية الإنجليزية والتبعية للخلافة العثمانية عنها، ويفسر هذا التوجه تحلق المصريين، مسلمين ومسيحيين، حول سعد باشا خلال أحداث ثورة 1919.
امتدت الظلال الدينية داخل البيت إلى الأم التى كانت شغوفة بالاستماع إلى القرآن الكريم، وكانت تتمنى أن يحفظ ولدها سيد القرآن وأن يرزقه الله صوتًا نديًا ليتلو لها آياته الكريمة، لكن الله لم يهب «سيد» حلاوة الصوت، كما يشير «قطب» فى الإهداء الذى تصدر كتابه «التصوير الفنى فى القرآن الكريم»، وهو إهداء طويل وجهه إلى أمه، من ضمن ما قال فيه: «إليك يا أماه أرفع هذا الكتاب. لطالما تسمعت من وراء الشيش فى القرية، للقراء يرتلون فى دارنا القرآن، طوال شهر رمضان، وحينما نشأت بين يديك بعثت بى إلى المدرسة الأولية فى القرية وأولى أمانيك أن يفتح الله علىّ فأحفظ القرآن وأن يرزقنى الصوت الرخيم فأرتله لك. فإليك يا أماه ثمرة توجيهك الطويل لطفلك الصغير ولفتاك الكبير ولئن كان قد فاته جمال الترتيل فعسى ألا يكون قد فاته جمال التأويل».
«التصوير الفنى فى القرآن الكريم» ليس كتابًا فى التأويل، كما وصفه سيد قطب فى إهدائه لأمه. التأويل يعنى تفسير النص فى إطار السياقات الحاكمة له، وكتاب «قطب» ليس كذلك، بل هو كتاب فى البلاغة الأدبية للنص القرآنى. الكاتب نفسه يعترف بذلك فى مقدمة الكتاب، فهو فى البداية يعرض لنا الصور التى كانت تقفز فى خيالاته، هو يستمع إلى بعض الآيات التصويرية فى القرآن، مثل «ومن الناس من يعبد الله على حرف»، فيقفز فى خياله فكرة رجل يقف على حافة مرتفعة يكاد يسقط منها. ويؤكد «قطب» أن هذه الطريقة فى التفاعل مع النص القرآنى كانت تروقه وتعجبه، دون اكتراث لمعانى الآيات أو مراميها. ويذكر بعد ذلك أنه قرأ التفاسير واستمع إلى أساتذة التفسير عندما كبر ونضج، لكنه لم يجد فيه «قرآن الطفولة»، وتساءل: هل هما قرآنان: قرآن الطفولة العذب المشوق الميسر، وقرآن الشباب العسر المعقد الممزق؟. يقرر «قطب» بعد ذلك أنه عاد إلى القرآن يقرأه فى صحائفه وليس فى كتب التفسير، واعتمد على منهجيته الأثيرة فى الاعتماد على خيال الأديب وسذاجة الطفل ويضيف إليها نضج العقل ليفهم معانى ومرامى القرآن، فإذا به يجد القرآن من جديد واصفًا ما تحمله آياته من معان بأنها «مثل يضرب، لا حادث يقع»!.
هذه الطريقة فى التفاعل مع النص القرآنى تليق بخيال أديب تسحره البلاغة المعجزة، وتتسق مع عقلية تتعامل مع النص القرآنى دون اكتراث للسياقات التى حكمت نزوله وارتباط بعض آياته بأحداث ووقائع تاريخية محددة أو فهم هذه السياقات والأحداث بخيال الأديب، بما يترتب على ذلك من الخروج باستخلاصات عامة أو أحكام مطلقة يعوزها الوعى بمعطيات الواقع وحقائق التاريخ. هذا النوع من الفهم للنص القرآنى يولد لدى صاحبه نوعًا من «التدين الانفعالى» القائم على الحماس، والبعد لمسافة تطول أو تقصر عن التفكير الإيمانى العقلانى، والتحليق بالخيال بعيدًا عن الواقع.