رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفن وحده يستطيع


الموت فقد لعزيز، انقطاع لصلات، قطع لطريق، انتقال لمجهول، وتتنوع رؤية الموت فى الأعمال الأدبية والدرامية: ففى روايتى «استقالة ملك الموت» 2005، لم يظهر الموت ككائن مخيف قابض ومقبض، لكن تم تصويره كموظف، ساعى بريد، عامل ديليفرى للأرواح، وعبر الرواية يشهد الموت على تطور الحياة، وتطور الشخصية الرئيسية وزيادة معرفتها ووعيها بنفسها وبالمحطين بها، ذلك الوعى الذى يجعله وهو الكائن الوظيفى عاجزًا عن التعامل معها، وأنه سيرحل بعيدًا عنها، تاركة مهمته لموت أكثر شبابًا يكون قادرًا على التعامل معها. بعد أن تغيرت كثيرًا.

قد تكون هذه الرؤية فى رواية «استقالة ملك الموت» هى نظرة متفائلة ومؤمنة بقدرة الإنسان على تجاوز كل مخاوفه وأن المعرفة والوعى هما معيارا تطور الإنسان ووسيلته لدحر الموت ماديًا ومعنويًا، وتحقيقه للخلود. فالموت لم يكن رمزًا للخير أو للشر، بل كان كان كائنًا على وشك الدخول لمتحف التاريخ، ولا بد من تعديله وتطوير قدراته.

وفى فيلمه «الختم السابع» (The Seventh Seal) 1957 قدّم المخرج الكبير إنجمار بيرجمان رؤية مختلفة للموت، فهو كائن جامد الملامح، يتشح برداء أسود لا يبدو منه غير وجهه شديد البياض الموت فى رؤية إنجمار هو كائن مهيمن ومسيطر ويكاد يكون المعادل للشر، والإنسان حتى بطل الفيلم المحارب العائد من الأراضى المقدسة بعد الحروب الصليبية، منسحق تمامًا أمام هذا الوجود الجبار للموت، ويحاول أن يؤجل المواجهة معه أو أن ينساق خلفه إلى المجهول حيث لا يعرف، يلجأ المحارب إلى الحيلة ويعرض على الموت أن يتنافسا فى مباراة للشطرنج، فى إشارة إلى أن الحياة نفسها لعبة ويؤكد هذه الإشارة امتداد زمن المباراة وتخللها لأحداث ومهام يقوم بها الموت ليحصد أرواح آخرين من بينهم ممثل متجول يتوه فى الغابة ويصعد لقمة شجرة خوفًا من الدب، فيجد الموت مترصدًا له ويقطع جزع الشجرة بمنشار، فلا هروب من الموت.. الجو العام للفيلم يؤكد هيمنة الموت، انتشار الطاعون والجثث المشوهة الوجه والأطراف، تتقدم إجابة بليغة لسؤال حتمية الموت، وأن الموت عقاب عن الخطايا والذنوب، استخدام المخرج للونين الأبيض والأسود يجسد الحدية الطرفية بين الإنسان والموت.

الأسئلة التى يطرحها المحارب عن الوجود الإلهى أمام القس الذى يكتشف أنه نفسه الموت، لا يجد لها إجابات وتستمر حيرته ورغبته فى المعرفة، وينتهى الفيلم بموت جميع شخوصه عدا عائلة صغيرة تتكون من زوج متعدد المواهب فهو يرقص ويمثل ويلحن ويغنى، وزوجته التى تشاركه تقديم العروض الفنية المتجولة وكأن الفن هو الذى يملك رؤية وبصيرة تنجيه من الموت وتمنحه السلام واليقين بالوجود الإلهى.