رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ربك رب قلوب «1»

أيمن الحكيم يكتب: الحب من أول نظرة على طريقة مصطفى إسماعيل

جريدة الدستور

لم يدرس إحياء ذكرى الأولياء والصالحين بأنواع القُرَب المختلفة أمرٌ مرغَّب فيه شرعًا؛ لِمَا فى ذلك من التأسى بهم والسير على طريقهم، ولا بأس من تحديد أيام معينة يُحتفل فيها بذكرى أولياء الله الصالحين، سواء أكانت أيام مواليدهم أم غيرها، فإن هذا داخل تحت عموم قوله تعالى:
﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: ٥].
وأما ما قد يحدث فى هذه المواسم من أمور محرمة كالاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء فيجب إنكاره وتنبيه أصحابه إلى مخالفة ذلك للمقصد الأساس الذى أُقيمت من أجله هذه المناسبات الشريفة.
ولا يجوز للمسلمين أن يشغلوا أنفسهم بمثل هذه المسائل ويجعلوها قضايا يحمل بعضهم فيها سَيف الكلام على صاحبه، فيكون جهادٌ فى غير وَغًى، ويكون ذلك سببًا فى تفريق الصفوف وبعثرة الجهود، ويشغلنا عن بناء مجتمعاتنا ووحدة أمتنا.
نسأل الله تعالى أن يجمع قلوب المسلمين على الكتاب والسنة، وحسن التفهم للدين ومعرفة مراد الله تعالى من خلقه.. آمين.
رأى فاطمة فى الشرفة فخطبها بعد دقائق وتزوجها بعد أسبوع وعاش معها نصف قرن
لم يدرس الشيخ مصطفى إسماعيل الموسيقى ولا مقاماتها، ولكن صوته كان يتجلى فى ١٩ مقامًا ويتنقل بينها بيسر كما تتنقل الفراشة بين الزهور، وحدث مرة أن كان بصحبة نجله الأكبر عاطف فى زيارة لعبدالوهاب فى بيته، واستمع موسيقار الأجيال إلى تسجيل جديد للشيخ على شريط كاسيت حمله معه عاطف، ولما وصل الشيخ إلى آية من سورة «الحج» أوقف عبدالوهاب التسجيل، وأعادها مرة واثنتين وعشرة وهو يهمهم بطريقة غريبة، ثم سأل الشيخ فجأة: أنت درست المقامات فين يا شيخ مصطفى؟، وأجاب الشيخ ببساطة: ما أنت عارف يا سى محمد إنى ما درستش مزيكا وإنى بقرأ بنور ربنا. صاح عبدالوهاب بدهشة: سبحان العاطى الوهاب.. أنت عامل إعجاز يا مولانا.. إزاى قدرت تدخل من مقام الصبا وتقفل بالحجاز كار؟

.. ومع زوجته أمام البيانو
كانت أم كلثوم ترسل من يسجل لها حفلات الشيخ فى المناسبات وسرادقات العزاء، لتتعلم منه وتستلهم تجلياته وطرقه المتفردة فى التنقل بين المقامات، وكانت تصطحبه أحيانًا معها إلى استديوهات الإذاعة وهى تسجل أغانيها الجديدة لتسمع رأيه وتطمئن أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.. وأنها لم تخرج عن «المقام».
ومثلما كان الشيخ مصطفى إسماعيل قادرًا على كسر نظريات الموسيقيين ومقاماتهم، فإنه كسر بنفس البساطة نظرية إحسان عبدالقدوس الشهيرة فى الحب الأول، والتى كان يؤكد فيها أنه وهم كبير فى حياة كل رجل.. فقد أثبت الشيخ أن الحب الأول حقيقة وليس وهمًا.
وكما كان الشيخ مصطفى إسماعيل متفردًا فى صوته وتجلياته كمقرئ، فإنه كان متفردًا كذلك فى قصة حبه وزواجه.
كان الشيخ وقتها فى بداية طريق المجد، وقد تجاوزت شهرته قريته «ميت غزال» بمركز «السنطة» بل محافظة الغربية كلها، وذاع اسمه فى محافظات الوجه البحرى كلها ووصل إلى العاصمة بعد أن قرأ فى عزاء حسن باشا القصبى، عضو البرلمان الذى وافته المنية فى اسطنبول، وجاء وجهاء مصر وكبار مقرئيها لحضور عزائه المهيب فى طنطا.
وكان من بين الحضور عضو للبرلمان عن محافظة دمياط، أعجبه صوت الشيخ الشاب فقرر أن يدعوه ليقرأ فى حفل التأبين الذى أقامه لزعيم الأمة وفقيدها سعد باشا زغلول.. وفى الصوان المتسع جلس وجهاء دمياط يستمعون بحماس للشيخ القادم من الغربية ويطلقون صيحات الإعجاب، وكان بينهم الأستاذ محمد عمر صاحب سلسلة «مدارس عمر الخاصة»، والذى لم يكتف بصيحات الإعجاب بل اتجه للشيخ الشاب بعد الحفل ووجه له الدعوة ليتناول الإفطار معه فى بيته صباح اليوم التالى.. وسافر الشيخ وقد أصبح له صديق فى دمياط.
ولما جاء الشيخ مصطفى فى العام التالى إلى دمياط ليقرأ فى ذكرى زعيم الأمة، فإن أول ما فعله هو السؤال عن صديقه محمد عمر، وأصيب بصدمة حقيقية عندما عرف بخبر وفاته قبلها بشهور، وكان ابن الفقيد من الحاضرين فى السرادق، ولما كان يعرف محبة والده للشيخ فقد وجه إليه الدعوة لتناول الإفطار معه فى البيت.
وخلال اللحظات التى وقف فيها الشيخ مصطفى على الباب قبل أن يُفتح له، لمح فتاة صغيرة تقف فى الشرفة، كانت جميلة وتطل من عينيها علامات الذكاء، ووقعت الفتاة فى قلبه من النظرة الأولى، وبمجرد دخوله المنزل سأل مُضيفه عنها فأخبره بأنها أخته الصغرى، وبلا تردد وبجرأة متناهية قال الشيخ: تجوزهالى؟.
خطبها الشيخ وطلب يدها للزواج دون أن يعرف اسمها ولا ظروفها.. فقط شعر بأنه أحبها من النظرة الأولى وبأنها الزوجة التى يبحث عنها.
ولأن الشيخ كان جادًا فى طلبه فلم يملك الأخ سوى أن يستدعى «فاطمة» ليستطلع رأيها فى «عريس الغفلة».. وبعد دقائق جاءت العروس الصغيرة، وكانت المفاجأة أنها وافقت ببساطة، فقد أحبته هى الأخرى من أول نظرة.. فقد كان الشيخ رغم العمة والكاكولا والزى الدينى على درجة لافتة من الوسامة والرجولة.
كانت فاطمة يومها فى السادسة عشرة من عمرها، ويكبرها الشيخ بعشر سنوات، ولم يغادر الشيخ العاشق دمياط إلا بعد أن اتفق على عقد القران والزواج خلال أسبوع واحد فقط لا غير.. ولولا التقاليد لتزوجها فى اليوم نفسه.
وفى ظرف الأسبوع كان الشيخ قد استأجر شقة فى طنطا وفرشها بما يليق بعروسه الجميلة وطار إليها ليصطحبها إلى عش الزوجية.. وبعد عقد القران انطلق بسيارته الجديدة ومعه عروسه إلى طنطا ممنيًا نفسه بليلة عرس لا تُنسى، وفاق من أحلامه على جذع شجرة يسد عليه الطريق، فلما نزل ليحركه فوجئ بعصابة من قطّاع الطرق، كانت قد احترفت هذه الطريقة لسرقة المارين بالإكراه.
وفوجئ زعيم العصابة بالشيخ وبملابسه الأزهرية، ولأول مرة تتعاطف العصابة مع إحدى ضحاياها، خاصة بعد أن عرفوا أن التى معه فى السيارة هى عروسه، وأن اليوم هو دخلته عليها، وكادوا يسمحون له بالمرور سالمًا وبدون «إتاوة»، لكن الشيخ رفض أن يكسر بخاطر العصابة، وكانت دهشتهم تصل لحد الذهول عندما خلع الشيخ ساعته الثمينة وأخرج ما فى جيبه من نقود وترك لهم الغنائم وانصرف فى هدوء.
وازداد الشيخ حبًا لزوجته وتضاعف بعد أن كان زواجه منها «وش السعد» عليه، وأصبح مقرئ الملك، وفتحت له الإذاعة أثيرها، وأصبح اسمه على كل لسان، واحتفظ بمكانته بعد ثورة يوليو، وظل هو المقرئ الأثير للرؤساء الذين توالوا على حكم مصر: نجيب وعبدالناصر والسادات.. جميعهم أحبوه.. وجميعهم كرموه.
وأنجب الشيخ من زوجته نصف دستة من البنين والبنات، هم بترتيب العمر: عاطف، سمير، وحيد، أنجة، سامية، ماجدة.
كان الشيخ مصطفى إسماعيل زوجًا وأبًا فى غاية الاستنارة والعصرية، فقد ألحق بناته بمدرسة «الأمريكان كوليدج» وكان يسمح لهن بممارسة «التنس» ولم يفرض الحجاب على زوجته وبناته، بل اشترى لهن «بيانو» ليتعلمن العزف عليه، ولم يجد غضاضة فى أن يلتقط معهن صورة أمام بيانو، ويقف أمام الكاميرا لتصوره مع زوجته غير المحجبة.. «يوم كان الإيمان فى القلوب وفى السلوك ولا يقاس بالمظاهر والملابس».
ويكشف لى نجله الأكبر عاطف سرًا خاصًا جدًا، فيحكى أن والده رفض «ختان» بناته، وكان يرى فى ختان البنات بدعة ليست من الإسلام فى شىء، وكان يستشهد بآيات من القرآن الكريم يرى أن فيها كراهية وتحريم الختان، خاصة قوله تعالى: «إنّا كل شىء خلقناه بقدر» وقوله فى سورة التين «لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم»، وبناء عليه فلا يمكن أن يكون الخالق تبارك وتعالى قد خلق المرأة «زايدة حتة» أو «ناقصة حتة»، وبالتالى لا يجوز أن نعدل فى خلق الله وخلقته.
كان مؤمنا بتعليم البنات، وبحرية البنت فى الاختيار، سواء لدراستها أو لشريك حياتها.. وكان عارفًا بقيمة العلم، فلم يفرض على أولاده تعليمًا دينيًا ولا سعى لأن يرثوا عنه مهنته وشهرته كمقرئ للقرآن، بل أرسل نجله عاطف لدراسة الهندسة فى ألمانيا.. وكان يرسل له مصاريف جامعته الباهظة بالعملة الأجنبية.
ولما عاد عاطف إلى القاهرة بزوجته الألمانية المسيحية كان يظن أن والده الشيخ الريفى سيثور ويغضب، لكنه فوجئ بشيخ مقرئى القرآن فى العالم الإسلامى يبارك زواجه بروح متسامحة مرددًا قوله تعالى «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا»، ثم يسأل ابنه بتلقائية: هى مراتك وأهلها مش بيعبدوا ربنا زينا؟ يبقى إيه المانع؟ سيدنا النبى اتجوز من مسيحية «السيدة مارية» ومن يهودية «السيدة صفية».. كلنا بنعبد رب واحد.. المهم تكون بتحبها وبتحبك.
بتلك السماحة عاش، وبتلك المحبة امتلأ قلبه.. وحتى رحيل الشيخ مصطفى إسماعيل فى ٢٦ ديسمبر ١٩٧٨ عن ٧٢ سنة لم تفتر محبته لزوجته ولم يفكر فى غيرها، ظل على حبه لتلك الفتاة الدمياطية الجميلة التى أحبها من أول نظرة وخطبها بعد خمس دقائق وتزوجها بعد أسبوع وظل مخلصًا لها نحو ٥٠ سنة.