رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجلس الصحابة


شواهد كثيرة تقول إن «مجلس البرهان»، أو المجلس العسكرى الانتقالى الذى يحكم السودان الآن بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، يختلف عن «مجلس الصحابة» الذى تولى الحكم بعد انقلاب ١٩٨٩، بقيادة عمر البشير. غير أن الشواهد الظاهرة، وحدها لا تكفى، وقد يتضح فى قادم الأيام، الأسابيع، أو الشهور، أن ما خفى كان مختلفًا.
اختلاف ظاهر قرارات وممارسات «مجلس الصحابة»، عن باطنها، خلال الشهور الأولى من سيطرته على الحكم، يجعلك تتشكك فى كل شىء، بما فى ذلك خبر نقل البشير من مقر الإقامة الرئاسى إلى سجن كوبر شديد التحصين فى العاصمة الخرطوم، الذى قد يكون تكرارًا للعبة «اذهب إلى القصر رئيسًا.. وأذهب أنا إلى السجن حبيسًا» التى ذهب بموجبها حسن الترابى، القيادى الإخوانى، إلى السجن، لينفى علاقته بالانقلاب، الذى كان قائدًا له، أو على الأقل شريكًا فيه، بينما ذهب «العميد» عمر البشير إلى سدة الحكم رئيسًا. ولم يكشف عن هويته الإخوانية حتى تمكن من إحكام قبضته على السلطة. ووقتها، قام المدعو «فهمى هويدى» بمنحه «الختم»، ووصفه، ومن معه، بأنهم «مجلس الصحابة الذى يحكم السودان»!.
الشواهد الظاهرة، الآن، أو قرارات وبيانات «مجلس البرهان»، تقول بوضوح إن المجلس متجاوب، إلى أقصى درجة، مع مطالب الشارع والقوى السياسية، بدءًا من تنازل عوض بن عوف، وزير الدفاع السابق، عن رئاسة المجلس، وليس انتهاءً بمطالبته القوى السياسية بالتوافق حول شخصية قومية تراها مناسبة لرئاسة الحكومة المدنية خلال الفترة الانتقالية. وعليه، يكون من المفترض أن تعزز هذه القرارات والبيانات الثقة بين الأطراف الثلاثة، التى نراها ضرورية لتجاوز الأزمة بأقل قدر من الخسائر. غير أن الاحتجاجات ما زالت مستمرة، وأعلن «تجمع المهنيين السودانيين» أنها لن تتوقف قبل أن يقوم المجلس بتسليم السلطة إلى قيادة مدنية.
اسم «تجمع المهنيين السودانيين» ظهر، لأول مرة، سنة ٢٠١٣ بعد الاحتجاجات التى عمت البلاد فى سبتمبر من ذلك العام، إلا أن الإعلان الرسمى عنه كان فى أغسطس ٢٠١٨، وقيل إن الدافع من إنشائه هو تكوين تجمع يقود المعارضة عوضًا عن الأحزاب التقليدية، والنقابات الرسمية، التى يسيطر عليها النظام. وبعد الإطاحة بالبشير، لا يزال هذا «التجمع» يطالب بالتغيير الشامل وتطهير البلاد من الفساد والمحسوبية، و... و.... ويوم الجمعة، أى خلال ساعات، يعقد «التجمع» مؤتمرًا صحفيًا فى ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش السودانى، للإعلان عن هياكل السلطة الانتقالية المدنية: مجلس رئاسى مدنى، ومجلس تشريعى، ومجلس وزراء، توكل فيه وزارتا الدفاع والداخلية إلى شخصيات مدنية ذات خلفية عسكرية!.
الصورة لا تزال ضبابية، وبين الضباب الكثيف كان أكثر ما استوقفنا، فى بيانات المتحدث باسم المجلس العسكرى الانتقالى، إشارته فى إحداها إلى أن القوات غير النظامية الموالية للحزب الحاكم السابق، تم وضعها تحت قيادة الجيش والشرطة، بما فى ذلك قوات الدفاع الشعبى والخدمة الوطنية والشرطة الشعبية. وهنا، تكون العودة إلى انقلاب ١٩٨٩ مهمة، لأن الشهور التى تلته، شهدت أكبر عملية فصل تعسفى، وإحالات للتقاعد فى تاريخ السودان، فى مختلف المواقع العسكرية والمدنية، قدّرت «لجنة قومية للمفصولين» أعدادهم بمئات الآلاف. وما يعنينا هنا هو أن هؤلاء حلت محلهم عناصر إخوانية، وامتدت سيطرتهم من مفاصل الدولة إلى مؤسساتها الاقتصادية، العامة والخاصة، بأن تم بيع العديد من مؤسسات الدولة لأعضاء الجماعة، وبحصولهم على تسهيلات لم يحصل عليها غيرهم.
الأكثر خطورة من ذلك كله هو أن جماعة الإخوان وما تفرع عنها من جماعات وتنظيمات، أتيح لها التغلغل فى المؤسسات العسكرية والأمنية، والسيطرة عليها، بل قامت بتكوين ميليشيات أو «كتائب ظل»، بمسميات مختلفة: الدفاع الشعبى، الأمن الشعبى، الأمن الطلابى، وكلها قوات عقائدية موازية للقوات النظامية. ولاحظ أن نظام البشير قام بتجميع الإرهابيين بعد خروجهم مِن أفغانستان، طوال العشر سنوات (١٩٨٩-١٩٩٩) التى كان وضع الترابى خلالها يشبه وضع «الولى الفقيه». وبعدها، ظلت البلاد مركزًا لتدريب ميليشيات العديد من التنظيمات الإرهابية، وأبرزها تنظيم القاعدة، الذى قام البشير باستضافة زعيمه، أسامة بن لادن، وصولًا إلى استضافته لعدد من قادة وأعضاء جماعة الإخوان، الهاربين من مصر، بعد ثورة ٣٠ يونيو.
أخيرًا، وإلى أن يتم تفكيك دولة «الإخوان» المتغلغلة فى كل مؤسسات ومفاصل البلاد، وما لم يتم القضاء، نهائيًا، على ذيول أو بقايا «مجلس الصحابة»، فإن احتمال حدوث مواجهات مسلحة، يظل قائمًا، بين الجيش السودانى، والميليشيات أو «كتائب الظل»، التى تنتظر، على الأرجح، إشارة من البشير، أو من أحد صحابته، أو من القوى التى كانت (وربما لا تزال) تحركهم جميعًا.