رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمريكا وسياسات الإبادة«2»


فى كتابه المهم والمُعنون بـ«أمريكا والإبادات الجماعيّة» يرصد ويقص د. منير العكش، أستاذ الإنسانيات والمحاضر بجامعة «سفوك» فى بوسطن، القصة المأساوية التى تكشف كيف تَمَكَّنَ مستعمرو أمريكا من إبادة سُكّان قارة بأكملها، وقد بلغوا أكثر من ١١٢ مليون إنسان، لم يبق منهم فى إحصاء أول القرن العشرين سوى ربع مليون فقط.
هذا التوجُّه، أى حروب الإبادة الجماعيّة ضد الهنود الحُمر، لم يكن حالة فريدة، أو مرحلة عابرة فى التاريخ الأمريكى وتم تجاوزها، وإنما كان منهجًا مؤسسيًا ظل مُرافقًا لتاريخ الولايات المتحدة، القديم والحديث، داخل القارة الأمريكية وخارجها، وكان من أهم عناصر فكرة أمريكا.
إن روح وقيم ودوافع وغرائز ومسلكيات الـ«واسب» الأمريكى «WASP»، أو«الزنابير»، وهو الاصطلاح المؤلَّف من الحروف الأربعة الأولى لأربع خِصال عرقيّة وأخلاقيّة استثنائيّة تميَّزت بها الذُريّة الأرستقراطيّة المُختارة التى أطلقت «فكرة أمريكا» وصنعت تاريخها وأسست أساطيرها.
يقول الكاتب، ظلّت حيّة فى كل الطبقات الجيولوجيّة لذاكرة هؤلاء «الزنابير» (البيض، الأنجلو- ساكسون، البروتستانت): مناجم غنيّة بمعادن موت استثنائى، بدونه لم تكن «فكرة أمريكا»، أى فكرة استبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة ممكنة.
وكانت «فكرة أمريكا» هذه هى التطبيق العملى للفهم الإنجليزى لفكرة إسرائيل التاريخية، كما يذكر المؤلف، وكل تفصيل من تفاصيل الاستعمار الإنجليزى لشمال أمريكا حاول أن يجد جذوره فى أدبيات تلك «الإسرائيل»، وتقمُّص وقائعها وأبطالها، وأبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية».
ولذلك فإن قصة هؤلاء «الحُجَّاج» الإنجليز، الذين أسسوا أول مُستعمرة فى «إنجلترا الجديدة» على الأرض الأمريكيّة، تعتبر هى الأصل الأسطورى لكل التاريخ الأمريكى ومركزيته الأنجلوسكسونية، تشرح وتوضح موقف أمريكا من الدولة الصهيونية، والأبعاد الثقافية والعقائدية للعلاقة العضوية بينهما. إذ لا يزال كل بيت أمريكى يحتفل سنويًا فى «عيد الشكر» بتلك النهاية «الأسطورية» السعيدة التى ختمت قصة نجاة هؤلاء «الحُجَّاج» من ظلم فرعون «البريطانى» وخروجهم من أرضه وتيههم فى البحر، وعهدهم الذى أبرموه على ظهر سفينتهم مع «يهوه»، ووصولهم فى النهاية إلى أرض «كنعان».
وكل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنجليز فى أمريكا التى أطلقوا عليها اسم «أرض الميعاد» و«صهيون» و«إسرائيل الله الجديدة» وغير ذلك من التسميات التى أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين.
وقد استمد هؤلاء المؤسسون الأوائل كل أخلاق إبادة الهنود وغير الهنود أيضًا، فى هيروشيما وفيتنام، كما يذكر المؤلف، وأيضًا فى العراق وسوريا وغيرهما، من هذا التقمُّص التاريخى لاجتياح العبرانيين أرض كنعان «الفلسطينية» وذبح شعبها الفلسطينى والتنكيل بأهلها.
ومن هنا كان منطقيًا أن ترسخ «الثوابت الخمسة» التى رافقت التاريخ الأمريكى فى كل محطاته، منذ التأسيس وحتى الآن، وهى: المعنى الإسرائيلى لأمريكا، وعقيدة الاختيار الإلهى والتفوُّق العرقى والثقافى، والدور الخلاصى للعالم، وقدريّة «التوّسع اللانهائى، وحق «التضحية بالآخر».
وهكذا راح «الحُجَّاج» المُختارون من «العناية الإلهية»، المستفيدون من تفوقهم التكنولوجى وامتلاكهم وسائل إبادة مُستحدثة- يذبحون الهنود، ويجزون رقابهم، ويحصدون أرواحهم، ويتنافسون على التنكيل بجثثهم، ونشر الأوبئة والجراثيم بين تجمُّعاتهم، بل إنكار وجودهم أصلًا، حيث تُصر كتبهم المدرسية على خلو أكثر هذه «المجاهل» من السكان، قبل غزو الرجل الأبيض ووصول «كولومبس» تخومها فى فصح ١٥١٣، فالأرقام الرسمية الأمريكية لا تعترف إلا بوجود مليون أو مليونى هندى فقط، عند وصول الإنسان الأبيض إلى العالم الجديد.
من هنا لا يجب أن نستغرب هذه الرابطة الوثقى بين الطرفين: الأمريكى والإسرائيلى، وتماهيهما معًا، ذلك أنهم، كما يقول الحاخام «لى ليفنجر»: أكثر يهودية من اليهود، لأنهم يعتبرون أنفسهم «يهود الروح».